بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّما يُوَفَّى الصَّابرونَ أجرَهُم بغيرِ حساب

الحمد لله الذي عَنت لسلطانهِ الوجوه،وسجد له مافي السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال،ونشكره على ما أولانا من فضل هو محضّ العطاء والنعماء،ونعوذ به من شرِّ كلِّ ذي شر،ونسألهُ إخلاصاً في الدين الذي ارتضاه لنا،وثباتاً على الحقِّ الذي أوصانا به،واستقامة على الطريق في الدنيا الذي هو مقدمة الثبات على الصراط المستقيم في الآخرة.

اللهم صلِّ وسلم ما اختلف الليل والنهارعلى عبدك وحبيبك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم،سيّد البشر،ومُعلّم الناس الخير،الذي اصطفيته من خلقك واجتبيته من رسلك،وابتعثته في هذه الأمة خاتماً للنبين،ورحمة للعالمين،فأنقذتنا به من الهلكة،ودللتنا ببيانه على مواطن الهدى،وجنبتنا مزالق الردى،حتى تكّشفت المعالم،ووضح الصبح لكلِّ ذي عينين،وأخرجتنا بهديه من الظلمات إلى النور.

وبعد،فلقد ذكر الله عز وجلّ الصبر في كتابه العزيز في نحو بضع وتسعين موضعاً كما يقول الإمام أحمد رضي الله عنه(عدة الصابرين لإبن القيم رحمه الله)،وأضاف إليه أكثر الخيرات وأعظم الدرجات،وجعلها ثمرة له ولمن اتصف به.

فما هو الصبر؟وما هي حكمته؟وفضله؟ولماذا حضّ الله ورسوله في أكثر من آية وحديث على التحلي به والاستعانة عليه ؟

تعريف الصبر:

الصبر لغةً:

هو الحَبس والمنع،يقال:قتل الصبر:وهو أن يُحبس الرجل حتى يُقتل،وهو الإمساك في ضيق.يُقال:صَبَرتُ الدابة:أي حبستها بلا علف،وصَبَرت فلانا:أي خلفته خِلفةً لا خروج له منها.وسمي الصوم صبرا،لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاح.

ويقول الزبيدي صاحب كتاب تاج العروس عن الصبر: هو حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش،فلا تجزع عندما تصيبك مصيبة،والجزع هو شدة الإنهيار الذي يؤدي بصاحبه إلى تصرفات غير محمودة كالصراخ واللطم والعويل،وشقّ الثياب والتلفظ بالكلمات النابية.

وجاء في معجم الصحاح للجوهري ولسان العرب لإبن منظور:الصبر نقيض الجزع،صبر يصبر صبراً فهو صابر وصبّار وصَبير وصبور والأنثى صبور أيضاً بغير هاء وجمعه صُبُر.وأصل الصبر الحبس وكل من حبس شيئاً فقد صَبَره،والصبر حبس النفس عن الجزع.

والصبر شرعاً:

هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع،أو عما يقتضيان حبسهما عنه(الراغب الأصفهاني في المفردات).

وفي تعريف آخر:هو حبس النفس عن محارم الله،وحبسها على فرائضه،وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره(رسالة لابن القيم رحمه الله).

والصبر لفظ عام،وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه،فإن كان حبس النفس لمصيبة سُمي صبراً ويُضاده الجزع،وإن كان في قتال سُمي شجاعة ويضاده الجبن،وإن كان في نائبة مضجرة سُمي رحابة الصدر ويضاده الضجر،وإن كان في إمساك الكلام أو اخفاء سر سُمي الكتمان ويضاده الافشاء،وإن كان في كظم الغيظ سمي حلماُ ويضاده التذمر،وإن كان في فضول العيش سمي زهداً ويضاده الحرص،وإن كان صبراً على قدرٍ يسير من الحظوظ سُمي قناعة ويضاده الشره،وإن كان صبراً على شهوتي البطن والفرج سمي عفة.

فمما ذكرنا يتبين لنا أن أكثر أخلاق الإيمان داخلة في الصبر،وإن اختلفت الأسماء باختلاف المتعلقات.

والمصابرة:

على وزن مفاعلة هي مقاومة ومغالبة الخصم في ميدان الصبر،والتفوق عليه بأن تكون أطول صبراً منه، يقول تعالى:{يا أيُّها الذينَ آمنُوا اصبِروا وصَابروا ورابِطوا واتَّقوا اللهَ لعلَّكُم تفلحون}[آل عمران200].

يقول سيد قطب رحمه الله:

والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة.إنه طريق طويل شاق،حافل بالعقبات والأشواك،مفروش بالدماء والأشلاء،وبالإيذاء والابتلاء….

والمصابرة..وهي مفاعلة من الصبر..مصابرة هذه المشاعر كلها،ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين..مصابرتها ومصابرتهم،فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة.بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى:أعدائهم من كوامن الصدور،وأعدائهم من شرار الناس سواء”.

والصبور: القادر على الصبر.

والصّبار: يقال لمن كان فيه ضرب من التكلف والمجاهدة{إنّ في ذلك لآيات لكلِّ صبارٍ شكور}[لقمان 31]

والتَصبر: تكلف الصبر.أي حبس النفس بتكلف وتمرين وتجرع للمرارة.وفي الحديث الشريفومن يتصبّر يصبّره الله[رواه البخاري]،أي يطلب توفيق الصبر من الله تعالى،أي يأمر نفسه بالصبر ويتكلف في التحمل عن مشاقه.

والاصطبار:هو أبلغ من التصبر،فهو افتعال للصبر بمنزلة الاكتساب،فالتصبر مبدأ الاصطبار فلا يزال الصبر يتكرر حتى يصير اصطباراً.قال تعالى:{فاعبده واصطبر لعبادته}[مريم 65]وقال تعالى:{وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}[طه 132]

ماهو الصبر؟:

يقول الدكتور عبد الوهاب عزام رحمه الله(مجلة الرسالة العدد387):

“الصبرخلق يعصم النفس من اليأس إذا طال بها الطريق إلى غاياتها،ويمنعها من الارتداد إذا سدّت العقبات سبيلها،ويكبر بها عن الجزع إذا نزلت بها من أحداث الزمان نازلة.

في الحياة أعمال شاقة لا يستطيع الاضطلاع بها إلا الصابرون،وفيها غايات بعيدة لا يبلغها إلا من صبر على مشقة الطريق وبعد المدى.

والأخلاق الفاضلة تنأى بصاحبها عن شهواته،وتعلو به عن سفاسفه،وتكبر به على الهوان،وتسوم النفس ضروباً من الصدود عن الهوى،والعفاف عن الشهوة،ولا يتخلق بهذه الأخلاق إلا أهل الصبر.وفي الحياة عقائد حق ومذاهب خيّرة ينفر منها الناس أول عهدهم بها،وينال الدعاة إليها السخرية والأذى وآلام في النفس والنقص في المال.فلولا الصابرون مادعا إلى هذه العقائد داع،ولاذهب هذه المذاهب أحد.

الصبر توطين النفس على المشاق والمكاره،والإباء على الخطوب،والإستكبار عن الخنوع للمصائب،والثبات في الموقف الضنك،والمقام الهائل،أو المسير إلى الغاية المخوفة حتى يستوفي العمل أطواره،ويبلغ نهايته،ويُنجح الطلب،ويحمد الدأب.

والصابرون رواسي الامم كلما زلزلتها الخطوب،وسكينتها إذا طارت من الذعر القلوب.إذا طاشت الأحلام في مآزق الحرب صبروا حتى يتبلج النصر،وإذا خارت العزائم في معارك الحياة دأبوا حتى يشرق الحق.والصابرون قادة الأمم إلى الحق والخير والظفر يسلكون إليها الأهوال حين ينكص غيرهم فزعاً،ويستقيمون على الطريق حين يحيد غيرهم بأساً،ويواصلون المسير حين يقف مَن سواهم عجزاً،ويحتملون المكاره حين تنوء بكل عاجز،ويبسمون للمصائب حين تزلزل كل رعديد.

هم الذين يصلون مبادىء الأعمال بغاياتها،ومقدماتها بنتائجها،وإن شق العمل وطال الطريق.

هم الذين ينصرون كل دعوة إلى الحق،وكل مذهب في الخير وإن عظم ما يلقاهم من المحن،وما يعترضهم من المكاره.

والصبر هو تجلي النفس الإنسانية في أكمل صفاتها وأشرف درجاتها،تجلي النفس الإنسانية في عظمتها تعتز بقواها،وتستكبر على الأحداث،ولا تبالي الغضب والعنت،ولاتخشى الهلاك حتى تبلغ دعوتها واضحة وتؤدي واجبها كاملاً.

ولست أعرف فضيلة أكدّ القرآن الدعوة إليها توكيده الدعوة إلى الصبر،إذ كان عماد كل نجاح،وقوام كل جهاد،ونظام كل عمل صالح،وقرين كل خلق فاضل.

الصبر في القرآن قرين الحقّ لأن الحق لا ينصر إلا بالصبر. قال تعالى:{والعَصرِ* إنَّ الإنسانَ في خُسرٍ* إلا الذينَ آمنُوا وعَملوا الصَّالحاتِ وتواصَوا بالحَقِّ وتَواصَوا بالصَّبرِ}[العصر 1 ـ 3].

والصبر قرين العمل الصالح إلا صبر النفس عما يزيّن لها من الشهوات،وإقامتها على منهاج الفضيلة الذي يحرمها كثيراً مما تودّ.يقول تعالى:{إلّا الذينَ صَبروا وعَملوا الصَّالحاتِ أولئكَ لهم مَغفرةٌ وأجرٌ كبيرٌ}.[هود11]

وقد جعل القرآن الكريم الصبر وسيلة إلى الإمامة والهداية فمن لم يصبر لم يقوم نفسه،ولم يستطع الدعوة إلى الحق والمسير إليه والجهاد في سبيله,قال تعالى:{وجَعلناهُمْ أئِمَّةً يَهدُونَ بأمرنَا لما صَبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}.[السجدة 24].

وقد أعلى درجة الصابرين وأبان فضل الصبر أعظم إبانة إذ قال:{واصبرُوا إنَّ اللهَ معَ الصَّابرين}[الأنفال 46]وحسبك بمن كان الله تعالى معه يسدد قوله وعمله وينصره،قد ذللت له كل الصعاب وضمن له كل ظفر.إن الله مع الصابرين لأنهم بصبرهم يستجيبون لدعوة الله ويسيرون في سبيله على قوانينه حتى يبلغوا ماوعدهم به،ومن سار في سبيل الله إلى دعوة الله فأحرِ به أن يوقن بالنجاح وأحرِ به أن ينال النجاح غير منقوص.

وجعل القرآن الصبر وسيلة إلى إدراك آيات الله في خلقه.وهل كشف الباحثون عن الحقائق إلا بالصبر على الطلب والدأب في البحث؟قال القرآن في أكثر من آية:{إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكورٍ}.[لقمان 31]

وبين القرآن أن الصبر عُدّة المؤمنين في جهادهم في هذه الحياة إذ يقول:{يا أيُّها الذينَ آمنوا استعينُوا بالصَّبرِ والصَّلاةِ إنَّ اللهَ مع الصَّابرين}[البقرة 153]أمرهم أن يفزعوا إلى الله فيما ينوبهم من النوائب،فيتوجهوا إليه بالصلاة ويصبروا به على المكروه.ونِعمَ هذان عوناً على كل خير.

كما جعل الصبر في آخر درجات الفضائل حين عددها في آية البر فقال:{ليسَ البِرَّ أن تُوَلُّوا وجُوهَكُم قِبَلَ المَشرقِ والمَغرِبِ ولكِنَّ البِرَّ من آمنَ بالله واليومِ الآخِرِ والملائكةِ والكتابِ والنَّبيّينَ وآتى المالَ على حُبِّهِ ذوي القُربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السَّبيلِ والسَّائلينَ وفي الرِّقابِ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ والمُوفونَ بِعهدهم إذا عاهدوا والصَّابرينَ في البأساءِ والضَّرَّاءِ وحينَ البأسِ أولئكَ الذينَ صَدقوا وأولئكَ هُمُ المُتَّقونَ}[البقرة 177].

وبين القرآن أن الله سبحانه يحب الصابرين الذين يثبتون على الشدائد،ولا يهنون لما يحزُبهم من النوائب:{وكَأيّن من نَّبيٍّ قاتلَ معهُ رِبيُّونَ كثيرٌ فما وهَنُوا لمَّا أصابَهُمْ في سبيلِ الله وما ضَعُفُوا وما استكانُوا واللهُ يُحبُّ الصَّابرين}[آل عمران146].وحسبك بمحبة الله نجحاً وفلاحاً وسعادة.

والصبر قوة أعظم من قوة العدد،تغلب به الفئة القليلة الفئة الكثيرة.قال في قصة طالوت وجالوت:{فلمَّا جاوزهُ هُوَ والذين آمنوا معهُ قالوا لا طاقةَ لنا اليومَ بجالوتَ وجنودهِ قال الذينَ يظنُّونَ أنَّهم مُلاقوا الله كم من فِئةٍ قليلةٍ غَلبت فئةً كثيرة بإذنِ الله والله معَ الصَّابرينَ*ولمّا برزوا لجالوتَ وجنودهِ قالوا رَبَّنا أفرِغْ علينا صبراً وثبِّتْ أقدامنا وانصرنا على القومِ الكافرينَ*فهزموهم بإذنِ الله }البقرة 249 ـ 251}وكذلك أمر القرآن المسلمين أن يلقوا عدوهم الأكثر عدداً وهم صابرون،وبشرهم بأن الجماعة منهم تغلب عشر أمثالها بالصبر،وجعل الصبر أكثر من تسعة أمثال العدو غَناء في الحرب.قال تعالى في سورة الأنفال:{يا أيُّها النبيُّ حَرِضِ المؤمنينَ على القتالِ إن يكن منكم عشرونَ صابرونَ يغلبوا مائتينِ وإن يكن منكم مائةٌ يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنَّهم قومٌ لا يفقهونَ}[الأنفال 65].

ولما أراد أن يخفف عن المسلمين هذا التكليف أمرهم بأن تلقى الجماعة منهم مثليها فقال:{الآنَ خَفَّفَ الله عنكم وعلِمَ أنَّ فيكم ضَعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفينِ بإذنِ الله والله مع الصَّابرينَ}[الأنفال66].فأقل مراتب الصابرين أن يغلبوا ضعفهم.والحق أن العدد لا يثبت للصبر،وأن كثرة العدد فاشلة إذا خذلها الصبر،وأن قلته ظافرة إذا أيدها الصبر”.

ويقول الاستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(الأخلاق الإسلامية ج2 ص 305):

“الصبر قوة خلقية من قوى الإرادة،تُمكّن الإنسان من ضبط نفسه لتحمّل المتاعب والمشقات والآلام،وضبطها من الاندفاع بعوامل الضجر والجزع،والسأم والملل،والعجلة والرعونة،والغضب والطيش،والخوف والطمع،والأهواء والشهوات والغرائز.

وبالصبر يتمكن الإنسان بطمأنينة وثبات أن يضع الأشياء في مواضعها،ويتصرّف في الأمور بعقل واتزان،وينفذ مايريد من تصرّف في الزمن المناسب،وبالطريقة المناسبة الحكيمة،وعلى الوجه المناسب الحكيم،بخلاف عدم الصبر الذي يدفع إلى التسرّع والعجلة،فيضع الإنسان الأشياء في غير مواضعها،ويتصرف برعونة،فيخطىء في تحديد الزمان،ويسىء في طريقة التنفيذ وفي وجهه،وربما يكون صاحب حقٍّ أو يريد الخير،فيغدو جانياً أو مفسداً،ولو أنه اعتصم بالصبر لَسلِم من كل ذلك”.

حكمة الصبر:

يقول الحقّ تبارك وتعالى:{آلم*أحَسِبَ النَّاسُ أن يُترَكوا أن يَقولوا آمنّا وهم لا يُفتَنون*ولقد فَتنّا الذين من قَبلهم فَليعَلمَنَّ اللهُ الذين صَدقوا ولَيعلَمنَّ الكاذبين}[العنكبوت 1 ـ 3].

ويقول الله عز وجل:{ولَنَبلُونَّكُم حتَّى نعلمَ المُجاهدينَ مِنكُم والصَّابرينَ ونَبلُو أخبارَكُم}[محمد 31].

{لَتُبْلَوُنَّ في أموالكِمْ وأنفُسِكُمْ ولَتسمعُنَّ من الذينَ أوتوا الكتابَ من قبلِكم ومنَ الذينَ أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتَّقوا فإنَّ ذلكَ من عزمِ الأمورِ}[آل عمران 186]

فالحقّ جل وعلا قد قرر في محكم كتابه أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا قد كُتب عليه البلاء،والإمتحان،والفتنة،قد أبتلي من قبله،وسوف يُبتلى من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والحكمة من البلاء والاختبار كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله(خلق المسلم):

“أن الله عز وجل لم يجعل الحياة الدنيا دارجزاء وقرار،بل جعلها دار تمحيص وامتحان،،والفترة التي يقضيها المرء بها فترة  تجارب متصلة الحلقات، يخرج من امتحان ليدخل امتحاناً آخر،قد يغاير الأول مغايرة تامة،والإنسان قد يُمتحن بالشيء وضده،مثلما يصهر الحديد في النار ثم يلقى به في الماء”..

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:”

“الفتنة هي الإمتحان والإختبار،كما قال كليم الله موسى عليه السلام{إن هيَ إلَّا فِتنَتُكَ تُضِلُّ بها من تشاءُ وتهدي من تشاء}[الأعراف155]أي امتحانك واختبارك تضل بها من خالف الرسل،وتهدي من اتبعهم،والفتنة للإنسان كفتنة الذهب إذا أدخل كير الامتحان فإنها تميّز جيده من رديئه،فالحقّ كالذهب الخالص كلما امتحن زاد جودة،والباطل كالمغشوش المفشي إذا امتحن ظهر فساده،فالدين الحق كلما نظر فيه الناظر وناظر عنه المناظر ظهرت له البراهين،وقوي به اليقين وازداد به إيماناً وأشرق نوره في صدور العالمين”.

ويقول سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى{إن يَمسَسكُم قَرْحُ فقد مَسَّ القومَ قَرحٌ مِثلُهُ وتِلكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُها بينَ النَّاسِ ولِيعلَمَ اللهُ الذينَ آمنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُم شُهداءَ واللهُ لايُحِبُّ الظالمينَ}[آل عمران 140].

يقول رحمه الله:

“إنّ الشدّة بعد الرخاء،والرخاء بعد الشدّة،هما اللذان يكشفا عن معادن النفوس وطبائع القلوب،ودرجة الغبش فيها والصفاء ودرجة الهلع  فيها والصبر،ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح.عندئذ يتميز الصف وتنكشف في دنيا الناس دخائل النفوس…ومداولة الأيام،وتعاقب الشدة والرخاء،محك لا يخطيء،وميزان لايظلم،والرخاء في هذا كالشدّة.وكم من نفوس تصبر للشدّة وتتماسك،ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل،والنفوس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء،وتتجه إلى الله في الحالين،وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله”.

ولما كان الإيمان صلة بين الإنسان العبد وبين الله عز وجل،ولما كانت صلة الإنسان بالإنسان لا يعتد بها ولا ينوه بشأنها إلا إذا أكدها مُرُّ الأيام،وتقلّبُ الليالي،واختلاف الحوادث،فكان لابد لإيمان العبد أن يخضع للبلاء الذي يمحصه،فإما يكشف عن صيبه أو يكشف عن زيغه.

يقول الشهيد سيد قطب في الظلال:

إن تكاليف هذه العقيدة لا تتحقق إلا بتربية النفوس بالمخاوف والشدائد ونقص الأموال والأنفس والثمرات{ولَنبلُونَّكُم بشيءٍ من الخَوفِ والجُوعِ ونقصٍ منَ الأموالِ والأنفُسِ والثَّمرات وبَشِّرِ الصَّابرينَ}[البقرة 155]وبهذا وحده يؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة وتعزّ على نفوسهم بمقدار ما أدّوا في سبيلها من تكاليف،والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليقها لا يعزّ عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى،فالتكاليف هنا هي الثمن الذي تعزّ به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعزّ في نفوس الآخرين،وكلما تألموا في سبيلها وكلما بذلوا من أجلها،كانت أعزّ عليهم،وكانوا أضنَ ّبها،وكذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها،إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيراً مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء ولا صبروا عليه،وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها،مقدرين لها،مندفعين إليها،وعندئذ يأتي نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجاً{أمْ حَسِبتُم أن تَدخلوا الجنَّة ولمَّا يأتِكُم مَثَلُ الذين خَلَوا من قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البأساءُ والضَّرَّاءُ وزُلزلوا حتى يقولَ الرّسولُ والذينَ آمنوا معهُ متى نصرُ الله ألّا إنَّ نَصرَ الله قريب}[البقرة 214].

عن الصحابي الجليل أبي عبد الله خبّاب بن الأرَتِّ رضي الله عنه قال:شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتوسِّدٌ بُردةً في ظل الكعبة فقلنا:ألا تستنصرُ لنا،ألا تدعو لنا؟فقال:”قد كان مَن قبلَكم،يؤخذُ الرجلُ منهم، فيُحفرُ له في الأرض فيُجعلُ فيها،ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين،ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه،ما يصده ذلك عن دينه،والله ليُتِمَّنَّ الله تعالى هذا الأمرَ،حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ،لا يخافُ إلا الله والذئبَ على غنمه،ولكنكم تستعجلون[رواه البخاري وأبو داود والنسائي].

ويتابع سيد قطب رحمه الله:”ولابد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى،فالشدائد تستجيش مكنون القوى،ومذخور الطاقة،وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد والنوائب،والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون والران عن القلوب{ولَنبلُونَّكُمْ حتَّى نعلمَ المُجاهدينَ مِنكُمْ والصَّابرينَ ونبلوَ أخبارَكُم}[محمد31]،{أم حَسِبتُمْ أن تُترَكُوا ولمَّا يَعلَمِ اللهُ الذينَ جَاهدوا مِنكُمْ }]التوبة 16].{أم حَسِبتُم أن تدخلوا الجنّةَ ولمّا يعلمِ اللهُ الذينَ جاهدوا منكم ويعلمَ الصّابرين}[آل عمران 142]

وبالبلاء ينكشف عما هو مخبوء من معادن النفوس،وما هو مجهول من أمرها حتى لأصحابها،فيراها الناس على صورتها وحقيقتها وتدركها مداركهم،وهذا ينعكس عليهم ويؤثر فيهم ويكيف مشاعرهم،ويوجه حياتهم بوسائلهم الداخلة في طوقهم،وبهذا تتم حكمة الله في الابتلاء والله أعلم”.

وإذا علمنا أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ووعد بالشفاء،ولما كان البلاء هو الداء،فإن الله خلق الصبر دواءً وشفاءً{ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}[النحل 126].

وجاء في الحديث الشريف الذي رواه الترمذي:”إن عظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاء وإن الله عزّ وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضيَ فله الرضا ،ومن سخط فله السخط[رواه أنس بن مالك رضي الله عنه وقال الألباني حديث حسن]

إن الصبر من خاصيات الإنسان وحده،ولا يتصور في البهائم لنقصانها،وغلبة الشهوات عليها من غير شيء يقابلها،ولا يتصور أيضاً في الملائكة لكمالها،فإن الملائكة جُردّوا للشوق إلى حضرة الربوبية ولم تسلط عليهم شهوة صارفة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصدها عن حضرة الجلال.وأما الإنسان فإنه يخلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة ولم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه،ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة وليس له قوة الصبر،فإذا تحرك العقل وقوي،ظهرت مبادىء إشراق نور الهداية عند سن التمييز،وينمو على التدرج إلى سن البلوغ،كما يبدو نور الصبح إلى أن يطلع قرص الشمس،ولكنها هداية قاصرة لا مرشد لها إلى مصالح الآخرة،فإذا عقد بمعرفة الشرع تلمح ما يتعلق بالآخرة وكثر سلاحه،إلا أن الطبع يقتضي ما يحب وباعث الشرع والعقل يمنع،والحرب بينهما قائمة،ومعركة هذا القتال في قلب العبد،فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوات،فإن ثبت حتى قهر الشهوة التحق بالصابرين،وإن ضعف حتى غلبت الشهوة ولم يصبر على دفعها التحق بأتباع الشياطين.وإذا ثبت أن الصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقاومة الهوى فهذه المقاومة خاصة بالآدميين”.

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله(خلق المسلم):

إذا استحكمت الأزمات وتعقدّت حبالها،وترادفت الضوائق وطال ليلها،فالصبر وحدهُ هو الذي يُشع للمسلم النورالعاصم من التخبط ،والهداية الواقية من القنوط”.

وهو الزاد في رحلة الحياة لمواجهة كل مشقة،ولتجاوز كل الصعاب والعقبات،ولذلك كرر تعالى عز وجل الصبر في آيات عديدة من الذكر الحكيم،لأنه سبحانه وتعالى وهو أعلم العالمين يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الإستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع،ويعلم ما يقتضيه القيام بدعوة الله في الأرض وما يتطلبه من نفوس مشدودة الأعصاب،مجندة القوى،يقظة للمداخل والمخارج ،ولابد في كل هذا من الصبر.

الحضّ على الصبر:

جاءت الآيات والأحاديث النبوية الشريفة والمأثورات من أقوال الرسل والصحابة والصالحين تدعو إلى الصبر والالتزام به.والصبر واجب بإجماع العلماء:{واصبِرْ فإنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجرَ المحسنين}[هود 115]،فجاء بصيغة الأمر،والأمر للوجوب.

لقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالصبر في آياتٍ كثيرةٍ:

{فاصبرْ إنَّ العاقبةَ للمتقين}[هود49].

{ولئن صبرتُمْ لهوَ خيرٌ للصابرينَ* واصبرْ وما صبرُكَ إلا بالله ولا تحزنْ عليهم ولاتكُ في ضيقٍ مما يمكرون}[النحل 126 ـ 127]

{فاصبرْ إنَّ وعدَ الله حق ولا يَستَخِفَّنَّكَ الذين لا يوقنون}[الروم60].

{واتَّبِعْ ما يُوحى إليكَ واصبرْ حتى يَحكُمَ اللهُ وهوَ خيرُ الحاكمينَ}[يونس 109].

{فاصبِرْ كما صَبَرَ أولوا العزمِ من الرُّسُلِ}[الأحقاف 35].

{تِلكَ من أنباءِ الغَيبِ نُوحيها إليكَ ماكُنتَ تَعلَمُها أنتَ ولا قومُكَ من قبلِ هذا فاصبِر إنَّ العاقبةَ للِمتقينَ}[هود 49].

{فاصبِرْ على ما يقولونَ وسَبِّحْ بِحمدِ رَبِّكَ قبلَ طُلوعِ الشَّمسِ وقبلَ غُروبها}[طه 130].

{فاصبرْ على ما يقولونَ وسَبِّحْ بحمدِ رَبِّكَ قبلَ طلوعِ الشَّمس وقبلَ الغروبِ*ومن الليلِ فَسَبِّحهُ وأدبارَ السجودِ}[ق39 ـ 40]

{واصبرْ وما صَبرُكَ إلا بالله}[النحل 127]

{ولِربِّكَ فاصبر}[المدثر7]

{واصبرْ على ما يقولونَ واهجرهم هجراً جميلاً}[المزمل10]

{اصبرْ على مايقولونَ واذكرْ عبدَنا داودَ ذا الأيدِ إنَّهُ أوَّاب}[ص17]

{واصبرْ لِحُكمِ رَبِّكَ فإنَّكَ بأعيُننا وسَبِّحْ بحمدِ رَبِّكَ حينَ تقوم}[الطور 48]

{فاصبرْ إنَّ وعدَ الله حقٌّ واستغفر لذنبكَ وسَبِّح بحمدِ رَبِّكَ بالعَشيِّ والإبكارِ}[غافر 55]

{فاصبرْ إنَّ وعدَ الله حقّق فإمّا نُرِيَنَّكَ بعضَ الذي نَعِدُهم أو نتوَفَّيَنَّكَ فإلينا يُرجعونَ}[غافر 77]

{واصبرْ فإنَّ الله لا يُضيعُ أجرَ المُحسنين}[هود115]

{فاصبرْ صبراً جميلاً*إنَّهم يرونهُ بعيداً*ونراهُ قريباً}[المعارج 5 ـ 7]

{فاصبرْ لِحُكمِ رَبِّكَ ولا تَكن كصاحبِ الحوت}[القلم 48]

{واصبرْ وما صَبرُكَ إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تَكُ في ضَيقٍ ممّا يمكرون}[النحل 127]

{فاصبرْ لِحُكمِ رَبِّكَ ولا تُطِعْ منهم آثماً أو كفوراً}[الإنسان24]

كما أن الحض على الصبر جاء على لسان الأنبياء والصالحين في القرآن الكريم:

{قالَ مُوسى لقومِهِ استعينُوا بالله واصبِروا إنَّ الأرضَ لله يُورِثُها من يشاءُ من عبادهِ والعاقبةُ للمُتقين}[الأعراف 128].

قال تعالى ـ على لسان لقمان ـ:{يا بُنيَّ أقِمِ الصَّلاةَ وأُمرْ بالمعروفِ وانهَ عن المُنكرِ واصبرْ على ما أصابكَ إنَّ ذلكَ من عَزمِ الأمورِ}[لقمان 17].

{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}[البقرة 45]

قال تعالى:{يا أيُّها الذينَ آمنُوا استعينوا بالصَّبرِ والصَّلاةِ إنَّ اللهَ معَ الصَّابرينَ}[البقرة 153].

والصبر من ألزم الأمور في طريق محبة الله وأعظم الناس محبة لله هم أشدهم صبراً،ولهذا وصف الله تعالى بالصبر خاصة أولياءه وأحبابه:{إنا وجدناهُ صابراً}.وقرن الصبر مع عزم الأمور: {لَتُبلَوُنَّ في أموالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ من الذينَ أُوتوا الكتابَ من قَبلِكُمْ ومن الذينَ أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتَّقوا فإنَّ ذلكَ من عزمِ الأمورِ}[آل عمران 186].

وكذلك جاءت الأحاديث النبوية وسنة الرسول قولاً وعملاً في الأمر بالصبر والحض عليه.

عن أبي سعيد  الخدري رضي الله عنه” أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم،ثم سألوا فأعطاهم،ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ماعنده فقال: ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدَّخره عنكم،ومن يَستعفف يُعفَّهُ الله،ومن يستغنِ يُغنه الله،ومن يَتصبَّر يُصبِّره الله،وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر“.[رواه الشيخان]

و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: قلب شاكر،ولسان ذاكر،وبدن على البلاء صابر،وزوجة لا تبغيه خوناً في نفسها وماله[رواه الطبراني بسند حسن والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه الألباني]

و عن أبي مالك الأشعري قال:قال صلى الله عليه وسلم:”الصبر ضياء“[رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة]،فهو ينير للإنسان الطريق ويكشف عنه الظلمات.

وقال المسيح عيسى بن مريم عليه السلام:

“[يا ابن آدم الضعيف! اتق الله حيث ما كنت،وكن في الدنيا ضعيفاً واتخذ المساجد بيوتاً،وعلّم عينيك البكاء،وجسدك الصبر،وقلبك الفكر،ولا تهتم برزق غد]”.

وقال المسيح عليه السلام:

“إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون”.

يقول عمر الفاروق رضي الله عنه:

“رأيت جميع الأخلاء فلم أر خليلاً أفضل من حفظ اللسان،ورأيت جميع اللباس فلم أر لباساً أفضل من الورع،ورأيت جميع المال فلم أر مالاً أفضل من القناعة،ورأيت جميع البر فلم أر أفضل من النصيحة،ورأيت جميع الأطعمة فلم أر طعاماً ألذّ من الصبر”.

ويقول عمر الفاروق أيضاً رضي الله عنه:

“وجدنا خير عيشنا بالصبر”وقال أيضاً:”أفضل عيش أدركناه بالصبر،ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريما”.

ويقول سيدنا علي رضي الله عنه:

“الصبر سيف لا ينبو،ومطية لا تكبو”.

يقول الإمام علي رضي الله عنه:

“من استرشد غيرَ العقل أخطأ منهاج الرأي،ومن أخطأته وجوه المطالب خذلته الحيل،ومن أخلَّ بالصبر حُرم حسن العاقبة.فإن الصبر قوة من قوى العقل،وبقدر موادِ العقل وقوتها يقوى الصبر”.وقال أيضاً رضي الله عنه:”ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد،فإذا قطع الرأس بار الجسد.ثم رفع صوته فقال:”ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له”.

وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:

” ومعول المؤمن الصبر وما أنعم الله على عبده نعمة ثم انتزعها منه فأعاضه  ـ مما انتزع منه ـ الصبر،إلا كان ما أعاضه خيراً مما انتزع منه،وإنما يؤتى الصابرون أجرهم بغير حساب”.

ويقول سيد التابعين الحسن البصري رحمه الله:

“رحم الله امرءاً نظر فتفكَّر،وتفكّر فاعتبر،واعتبرَ فأبصر،وأبصر فصبر:فقد أبصرَ قومٌ ثمَّ لم يصبروا فتمكَّن الجزعُ من قلوبهم،فلم يدركوا ما طلبوا،ولم يرجعوا إلى ما فارقوا”.وقال أيضاً:”الصبر كنز من كنوز الخير،لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده”.

وقال سليمان بن القاسم رحمه الله:

“كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر”.

وجاء في الأدب الكبير لعبد الله بن المقفع:”

“ذلل نفسك بالصبر على جار السوء،وعشيرِ السوء،وجليسِ السوء.فإنَّ ذلك مما لا يكادُ يخطئك”.واعلم أن الصبر صبرانِ:صبرُ المرءِ على ما يكره،وصبره عما يحب.والصبرُ على المكروه أكبرهما وأشبههما أن يكون صاحبه مضطراً.واعلم أن اللئام أصبر أجساداً،وأنّ الكرام هم أصبر نفوساً.وليس الصبرُ الممدوح بأن يكون جلد الرجلُ وقاحاً على الضرب،أو رجله قويةً على المشي،أو يده قويةً على العمل.فإنما هذا من صفات الحمير.ولكن الصبر الممدوح أن يكون للنفسِ غلوباً،وللأمور محتملاً،وفي الضراء متجملاً،ولنفسهِ عند الرأي والحفاظ مرتبطاً وللحزم مؤثراً،وللهوى تاركاً،وللمشقة التي يرجو حسن عاقبتها مستخفاً،وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظباً،ولبصيرته بعزمهِ منفذاً”.

ويقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله:

“الشهوة الآثمة حلاوة ساعة ثم مرارة العمر،والشهوة المباحة حلاوة ساعة ثم فناء العمر،والصبر المشروع مرارة ساعة ثم حلاوة الأمد”.

وكانت الدعوة إلى الصبر والحض عليه وكذلك الدعوة إلى التواصي بالصبر والحض على ذلك دعوة صريحة واضحة جعلها الله قرينة التواصي بالحق وأقسم الله عز وجل أن فلاح البشر منوط بهما معاً{والعَصرِ*إنَّ الإنسانَ لفي خُسرٍ*إلّا الذينَ آمنوا وعملوا الصَّلحاتِ وتَواصَوا بالحَقِّ وتواصَوا بالصَّبرِ}.

لقد حضّ الله وهو الحكيم الخبير على الصبر والتواصي به لأنه وهو علّام الغيوب يعلم أن العبد لا يستغني عن الصبر في كل حال من الأحوال .

الصبر والصوم:

ومما يساعد على الصبر الصوم،فالصوم في حقيقته تدريب للنفس على السيادة والقيادة حيث يتحكم الصائم بشهواته طائعاً مختاراً في وقت لا رقيب عليه ولا حسيب إلا الله.والصوم أفضل أنواع الصبر لأنه يجمع الصبر على طاعة الله والصبر عن معاصيه وذلك بترك العبد لشهوات نفسه،وصبر على الأقدار المؤلمة مما يحصل للصائم من الجوع والعطش ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي شهر الصيام شهر الصبر.

الصبر والصلاة:

{والذينَ صبروا ابتغاءَ وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار}[الرعد22]

قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين}[البقرة 153].

يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله(المنار العدد206 بتاريخ الأول من حزيران عام 1904):

“أما الصبر فقد ذكر في القرآن سبعين مرة ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار وهذا يدل على عظم أمره،وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقروناً بالتواصي بالحق إذ لابد للداعي إلى الحق منه.وقد قرن الله تعالى في الآية المذكورة الصلاة بالصبر وجعل الأمرين معاً ذريعة الإستعانة على ما يلاقي المؤمنون في طريق الحق من الشدائد ولو كان هؤلاء الادعياء مصلين لكانوا من الصابرين.

ويتابع رحمه الله:”وجه الحاجة إلى الاستعانة بالصبرعلى تأييد الحق والقيام بأعبائه ظاهر جلي.وأما الحاجة إلى الإستعانة بالصلاة فوجهها محجوب لا يكاد ينكشف إلا للمصلين الذين هم في صلاتهم خاشعون.تلك الصلاة التي أكثر من ذكرها الكتاب العزيز ووصف ذويها بفضلى الصفات وهي التوجه إلى الله تعالى وحضور القلب معه سبحانه واستغراقه في الشعور بهيبته وجلاله وكمال سلطانه.تلك الصلاة التي قال فيها جلّ ذكره:{وإنَّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين!}[البقرة 45]وقال:{إنَّ الصَّلاةَ تنهى عن الفحشاءِ والمُنكرِ}[العنكبوت 45]وليست إلى الصورة المعهودة من القيام والركوع والسجود والتلاوة باللسان خاصة التي يسهل على كل صبي مميز أن يتعود عليها والتي نشاهد من المعتادين عليها الإصرار على الفواحش والمنكرات،واجتراح الآثام والسيئات,وأي قيمة لتلك الحركات الخفيفة في نفسها حتى يصفها رب العزة والجلال بالكبر إلا على الخاشعين.إنما جعلت تلك الحركات والأقوال صورة للصلاة لتكون وسيلة لتذكير الغافل،وتنبيه الذاهل،ودافعاً يدفعه إلى ذلك التوجه المقصود الذي يملأ القلب بعظمة الله وسلطانه حتى يستسهل في سبيله كل صعب،ويستخف بكل كرب،ويسهل عليه عند ذلك احتمال كل بلاء،ومقاومة كل عناء،فإنه لا يتصور شيئاً يعترض في سبيله إلا ويرى سيده ومولاه أكبر منه.فهو لا يزال يقول:الله أكبر:حتى لا يبقى في نفسه شىء كبير،إلا ماكان مرضياً لله العلي الكبير،الذي يلجأ إليه في الحوادث ويفزع إليه عند الكوارث”.

ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيراً،ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الإستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع،والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات،والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب،مجندة القوى،يقظة للمداخل والمخارج،ولابد من الصبر في هذا كله،لابد من الصبر على الطاعات،والصبر عن المعاصي،والصبر على جهاد المشاقين لله،والصبر على الكيد بشتى صنوفه،والصبر على بطء النصر،والصبر على بعد الشقة،والصبر على انتفاش الباطل،والصبر على قلة الناصر،والصبر على طول الطريق الشائك،والصبر على التواء النفوس،وضلالة القلوب،وثقلة العناد،ومضاضة الإعراض…وحين يطول الأمد،ويشق الجهد،قد يضعف الصبر أو ينفد،إذا لم يكن هناك زاد ومدد،ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر،فهي المعين الذي لا ينضب،والزاد الذي لا ينفد،المعين الذي يجدد الطاقة والزاد الذي يزود القلب،فيمتد حبل الصبرولا ينقطع،ثم يضيف إلى الصبر الرضى والبشاشة والطمأنينة والثقة واليقين…”.

الصبر ومقامات الإيمان الأخرى:

قُرِن الصبر مع فضائل أخرى نذكر منها:

1 ـ التقوى:

يقول تعالى:{يا أيُّها الذينَ آمنوا اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلَّكم تُفلحونَ}[آل عمران 200].[المصابرة:مغالبة الخصوم بالصبر،فإذا صبر العدو في القتال،فعلى المؤمنين أن يغالبوه بالصبر،فيصبروا أكثر منه]،{إنّهُ من يَتَّقِ ويصبر فإنَّ الله لا يُضيعُ أجرَ المحسنين}[يوسف90]،{فاصبر إنَّ العاقبة للمتقين}[هود49]

2 ـ الرحمة:

قال تعالى:{ثمَّ كانَ من الذين آمنوا وتواصوا بالصَّبرِ وتواصوا بالمرحمة}[البلد17].

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة،ولاقتحام العقبة بصفة  خاصة.والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته.درجة تماسك الجماعة المؤمنة،وتواصيها على معنى الصب،وتعاونها على تكاليف الإيمان.فهي أعضاء متجاوبة الحس.تشعر جميعاً شعوراً واحداً بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه،فيوصي بعضهم بعضاً بالصبر على العبء المشترك،ويثبت بعضها بعضاً فلا تتخاذل،ويقوي بعضها بعضاً فلا تنهزم.وهذا أمر غير الصبر الفردي.وإن يكن قائماً على الصبر الفردي.وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة.وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت،ولايكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام،ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة.

وكذلك التواصي بالمرحمة.فهو أمر زائد على المرحمة.إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به،والتحاض عليه،واتخاذه واجباً جماعياً  فردياً في الوقت ذاته،يتعارف عليه الجميع،ويتعاون عليه الجميع”.

3 ـ التوكل:

قال تعالى:{الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}[العنكبوت 59]

4 ـ الخَبت:

يقول تعالى:{وبَشِّر المُخبتينَ*الذينَ إذا ذُكِرَ الله وجِلت قلوبُهُم والصابرينَ على ما أصابهم والمقيمي الصَّلاةِ ومما رزقناهم ينفقون}[الحج34 ـ 35]

يقول الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني(الأخلاق الإسلامية ج2 ص310):

“المخبتون في الاصطلاح الشرعي هم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم،والصابرون على ما أصابهم،والمقيموا الصلاة،والمنفقون مما رزقهم الله ابتغاء مرضاته.

وأصل الخَبتِ في اللغة:الأرض المنخفضة المطمئنة،والمُخبتُ لربّه هو المتواضع الخاشع المطمئن”.

5 ـ الشكر:

يقول تعالى:{إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شكورٍ}[لقمان 31].

 6 ـ قرين الحق :

الصبر في القرآن قرين الحق لأن الحق لا ينصر إلا بالصبر. قال تعالى:{والعَصرِ* إنَّ الإنسانَ في خُسرٍ* إلا الذينَ آمنُوا وعَملوا الصَّالحاتِ وتواصَوا بالحَقِّ وتَواصَوا بالصَّبرِ}[العصر 1 ـ 3].

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“والتواصي بالحق ضرورة.فالنهوض بالحق عسير.والمعوقات عن الحق كثيرة:هوى النفس،ومنطق المصلحة،وتصورات البيئة،وطغيان الطغاة،وظلم الظلمة،وجور الجائرين…والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية،والأخوة في العبء والأمانة.فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية،إذ تتفاعل معاً فتتضاعف.تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولايخذله…وهذا الدين ـ وهو الحق ـ لا يقوم إلأ في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلى متضامنة على هذا المثال.

والتواصي بالصبر كذلك ضرورة.فالقيام على الإيمان والعمل الصالح،وحراسة الحق والعدل،من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة.ولابد من الصبر.لابد من الصبر على جهاد النفس،وجهاد الغير.والصبر على الاذى والمشقة.والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر.والصبر على طول الطريق وبطء المراحل،وانطماس المعالم،وبعد النهاية!

والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة،بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف،ووحدة المتجه،وتساند الجميع،وتزودهم بالحب والعزم والإصرار…إلى آخر مايثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلأا في جوها،ولاتبرز إلا من خلالها…وإلا فهو الخسران والضياع”.

والحقُّ مرٌّ،والصبرُ مرٌّ،ولكن إن تعجب فلتعجب يا صاحبي أنه من التقاء وامتزاج هذين المُرّين،تتولد حلاوة الإيمان،وما أجملها وما أحلاها من حلاوة.

7 ـ قرين الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة:

يقول تعالى:{إلا الذين صبروا وعملوا الصالحاتِ أولئك لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبير}[هود11].ويقول تعالى:{والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً}[الأحزاب 35].

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله(الفوائد ص270):

“الصبر لقاح الإيمان،فإذا اجتمع الإيمان والصبر أثمرا العمل الصالح.وحسن الظن بالله لقاح الافتقاروالاضطرار إليه،فإذا اجتمعا أثمرا إجابة الدعاء.والخشية لقاح المحبة،فإذا اجتمعا أثمرا امتثال الأوامر واجتناب المناهي.والصبر لقاح اليقين،فإذا اجتمعا أورثا الإمامة في الدين،قال تعالى:{وجَعلنا منهُم أئمةً يهدونَ بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنونَ}[السجدة 24].

ويتابع رحمه الله:”والصبر لقاح البصيرة،فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما.قال الحسن:”إذا شئت أن ترى بصيراً لا صبر له رأيته،وإذا شئت أن ترى صابراً لا بصيرة له رأيته،فإذا رأيت صابراً بصيراً فذاك”.

8 ـ الصدق:

{والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات}[الأحزاب 35].

يقول الأستاذ عبد الوهاب عزام رحمه الله(الرسالة العدد 386):

“وكثيرأ ما يقرن القرآن الكريم الصبر بالصدق،وهما من منبع واحد،هما من المروءة والكرامة والأنفة والشجاعة التي تقول الحق غير مبالية،وتصبر على الشدائد غير مستخذية الصدق في القول والفعل خلق يبين عن صفاء النفس وخلوصها وصراحتها وحبها الحق،وميلها عن الباطل،ونفورها من المداجاة والمراءاة والنفاق والخداع،خلق يأبى التكلف والتصنع ويربأ عن المذلة والخنوع،خلق ينطق بالإباء والشجاعة،وحب الخير للناس،وتحكيم قوانين الله فيما بينه وبينهم لا يبغي صاحبه عن هذه القوانين حولا،ولا يرضى لمنفعة نفسه الاحتيال لإخفاء الحقائق،والتماس غيرها من الوسائل المخترعة المزورة.وذلكم هدى القرآن وشرعة الإسلام،وسيرة المسلمين الأولين نطقت به مآثرهم في الحرب والسلم وفي معاملة العدو والصديق.كانوا في أقوالهم وأفعاله حرباً على الباطل والبغي والكذب،فكانت سيرهم مثلاً من الحق الصريح الذي لايشوبه رياء ولا مداراة ولا مداجاة،فجزاهم الله بصدقهم أن مكن لهم في الارض وملكهم أزمة الأمم يسوسونها بعدل الله ابتغاء مرضاة الله كما قال تعالى:{ليجزي الصادقين بصدقهم}[الأحزاب 24]

مواطن مأمور فيها بالصبر:

أمر سبحانه وتعالى بالتزام الصبر أمراً مطلقاً،وأمر بالصبر في مواضع معينة حيث يشتد الحاجة فيها للصبر:

1 ـ الصبر على أذى الفاجرين:

قال تعالى:{لَتُبلَوُنَّ في أموالِكُم وأنفُسِكُمْ ولَتَسمَعُنَّ من الذينَ أوتُوا الكتابَ مِنْ قَبلِكُمْ ومنَ الذينَ أشرَكُوا أذىً كثيراً وإن تَصبِروا وتتَّقُوا فإنَّ ذلكَ من عَزمِ الأمورِ}[آل عمران 186]

2 ـ في الدعوة إلى الله تعالى:

{يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}[لقمان 17]

3 ـ الصبر على معاملة الناس:

4 ـ الصبر على الإتّهام:

{ادفعْ بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينَكَ وبينَهُ عداوةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميمٌ}[فصلت 35]،{ولَمَن صبرَ وغفرَ إنَّ ذلكَ لَمِنْ عزمِ الأمور}[الشورى43].

يقول سيد قطب رحمه الله(سورة فصلت):

“وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات.وينقلب الهياج إلى وداعة.والغضب إلى سكينة،والتبجح إلى حياء،على كلمة طيبة،ونبرة هادئة،وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام!ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجاً وغضباً وتبجحاً ومروداً.وخلع حياءه نهائياً،وأفلت زمامه،وأخذته العزة بالإثم.

غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد.وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها.حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفاً.ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه،ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقاً.

وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية.لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها.فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها.أو الصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا”.

5 ـ الصبر على العشرة الزوجية وتربية الأطفال

6 ـ الصبر على من لك حقوق عنده:

الصبر على الغريم والمدين{وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرةٌ إلى مَيسرةٍ وأنْ تَصدَّقُوا خيرٌ لكُمْ إن كُنتُم تعلمون} [البقرة 280]

الآفات المُعيقة عن الصبر:

1 ـ الاستعجال:

النفس موكولة بحبّ العاجل:{خُلِقَ الإنسانُ من عَجَلٍ}[الأنبياء 37]،فإذا أبطأ على الإنسان مايريد نفد صبره وضاق صدره واستعجل قطف الثمرة قبل أوانها فلا هو ظفر بثمرة طيبة ولا هو أتمّ المسير،ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولاتستعجل لهم}[الأحقاف 35]،أي العذاب فإن له يوماً موعودا.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون[رواه البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه]

2 ـ الغضب:

لقد حذر الله رسوله من مغبة الغضب وعواقبه ونتائجه،وبين ذلك في حديثه عن النبي يونس وما وقع فيه بسبب الغضب فقال تعالى:{فاصبِرْ لِحُكمِ رَبِّكَ ولاتَكُنْ كصاحبِ الحُوتِ إذ نادى وهو مَكظُومٌ* لولا أن تَداركَهُ نِعمةٌ من رَبِّهِ لَنُبِذَ بالعراءِ وهو مَذمومٌ* فاجتباهُ رَبُّهُ فجَعلهُ من الصَّالحينَ}[القلم 48 ـ 50]الذي فرغ صبره وهجر قومه،وضاق صدره :{وذا النُّونِ إذ ذهبَ مُغاضباً فظنَّ أن لن نَّقدِرَ عليه فنادى في الظُّلماتِ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ سُبحانكَ إنّي كنتُ من الظالمين}[الأنبياء 87]،فتاب الله عليه وأنقذه مما كان فيه:{فاستجبنا لهُ ونَجَّينَاهُ من الغَمِّ وكذلكَ  نُنجي المؤمنينَ}[الأنبياء 88].

3 ـ اليأس:

وهذا الذي حذر منه نبي الله يعقوب عليه السلام:{يابَنيَّ اذهَبُوا فَتَحسَّسُوا من يُوسُفَ وأخيهِ ولا تيأسُوا من رَّوحِ الله إنَّهُ لاييأسُ من رَّوحِ الله إلا القومُ الكافرون}[يوسف87].

4 ـ شدة الحزن والضيق:

{واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون}[النحل 127]

{فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون}[فاطر 8]

مراتب الصبر:

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله هي ثلاثة:

الأولى:الصبر بالله،ومعناها الاستعانة به،ورؤيته أنه هو المُصيّر،وأن صبر العبد بربه لا بنفسه،كما قال تعالى:{واصبر وما صبرك إلا بالله}[النحل127]،يعني:إن لم يُصبرك الله لم تصبر.

الثانية:الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله تعالى،وإرادة وجهه والتقرب إليه،لا لإظهار قوة نفسه أو طلب الحمد من الخلق،أو غير ذلك من الأغراض.

الثالثة:الصبر مع الله،وهو دوران العبد مع مراد الله منه ومع أحكامه،صابراً نفسه معها،سائراً بسيرها،مقيماً بإقامتها،يتوجه معها أينما توجهت،وينزل معها أينما نزلت،جعل نفسه وقفاً على أوامر الله ومحابه،وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها،وهو صبر الصديقين.قال الجنيد:”المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن،وهجران الخلق في جنب الله شديد،والمسير من النفس إلى الله صعب شديد،والصبر مع الله أشد”.

أنواع الصبر:

النوع الأول:الصبر على السّراء:

هو ما يوافق هوى النفس من الصّحة والسلامة والمال والجاه وكثرة العشيرة والأتباع،وجميع ملاذ الدنيا،والعبد محتاج إلى الصبر في جميع هذه الأمور،فلا يركن إليها ولا ينهمك في التلذّذ بها،ومتى لم يضبط نفسه عن الانهماك في الملذّات والركون إليها،أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان،حتى قال بعض العارفين:”المؤمن يصبر على البلاء،ولا يصبر على العافية إلا صِدِّيق”.

وقال عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة:”ابتلينا بالضراء فصبرنا،وابتلينا بالسراء فلم نصبر”.

وذلك لأن الصبر على السراء شديد لأنه مقرون بالقدرة،فالجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه عند حضور الطعام اللذيذ،وهو شديد أيضا لأنه يجب أن يكون صبراً متصلاً بالشكر،فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر.ولهذا عرف السلف الصالح والأولون ما يعنيه الله تعالى بقوله:{واعلمُوا أنَّما أموالُكُمْ وأولادُكُمْ فِتنةٌ وأنَّ الله عنده أجرٌ عظيم}[الأنفال 28]

وقوله تعالى:{إنَّ من أزواجِكُم وأولادِكُم عدُوّاً لكم فاحذروهُم}[التغابن 14]،وقوله تعالى:{لا تُلهِكُم أموالُكُم ولا أولادُكُم عن ذكر الله ومن يفعل ذلكَ فأولئكَ همُ الخاسرون}[المنافقون 9].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال(سورة الأنفال):

“إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية،بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي،وبما يطلع منها على الظاهر والباطن،وعلى المنحنيات والدروب والمسالك.

وهو ـ سبحانه ـ يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة.ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها…ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد…لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها.فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء،ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه..أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها؟أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟”ونبلوكم بالشر والخير فتنة”…فالفتنة لا تكون باشدة والحرمان وحدهما…إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضاً!ومن الرخاء والعطاء هذه الأموال والأولاد…

ويتابع رحمه الله:”فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار،كان ذلك عوناً له على الحذر واليقظة والاحتياط،أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة.

ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض…فقد يضعف عن الأداء ـ بعد الانتباه ـ لثقل التضحية وضخامة التكليف،وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد!إنما يلوّح له بما هو خير وأبقى،ليستعين به على الفتنة ويتقوى”وأن الله عنده أجر عظيم”.

إنه ـ سبحانه ـ هو الذي وهب الأموال والأولاد..وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال وألاولاد،فلا يقعد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد..وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف،الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه:”وخلق الإنسان ضعيفاً”.

ويقول رحمه الله (سورة التغابن):

“والتنبيه إلى أن من الأزواج والاولاد من يكون عدواً…إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية.ويمس وشائج متشابكة دقيقة في التركيب العاطفي وفي ملابسات الحياة سواء.فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكرالله.كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه فلقي مايلقاه المجاهد في سبيل الله!والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير،وتضحية الكثير.كما يتعرض هو وأهله للعنت.وقد يحتمل العنت في نفسه ولايحتمله في زوجه وولده.فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال!فيكونون عدواً له،لأنهم صدوه عن الخير،وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا.كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه،اتقاء لما يصيبهم من جرائه،أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه،ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله…وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات..وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن”.

عرف السلف الصالح هذا فكانوا يخافون في السراء أكثر من خوفهم في الضراء،فقال سيدنا سليمان عليه السلام بعد التمكين الهائل له :{هذا من فضلِ رَبِّي لِيبلُوَني أأشكُرُ أم أكفُرُ ومن شكرَ فإنَّما يشكرُ لنفسِهِ ومن كفَرَ فإنَّ ربيِّ غنيٌّ كريمٌ}[النمل 40].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“استشعر سليمان عليه السلام أن النعمة ـ على هذا النحو ـ ابتلاء ضخم مخيف،يحتاج إلى يقظة منه ليجتازه،ويحتاج إلى عون من الله ليتقوى عليه،ويحتاج إلى معرفة النعمة والشعور بفضل المنعم،ليعرف الله منه هذا الشعور فيتولاه.والله غني عن شكر الشاكرين،ومن شكر فإنما يشكر لنفسه،فينال من الله زيادة النعمة،وحسن المعونة على اجتياز الابتلاء.ومن كفر فإن الله “غني” عن الشكر”كريم”يعطي عن كرم لا عن ارتقاب للشكر على العطاء”.

النوع الثاني:الصبر في الضراء:

هذه الحياة الدنيا ليست دار نعيم،ولا تخلو من المُنغصات من انحراف الصحة،أو ضياع المال،أو فقد الحبيب،أو غدر الصديق،أو ذهاب الأمن.هذه هي طبيعتها التي لا تتغير:

جُبِلت على كدرٍ وأنت تريدها              صفواً من الاقذار والأكدار

ومُكلفِ الأيام ضد طباعها                 متطلب في الماء جذوة نار

فإذا كانت هذه هي طبيعة الدنيا التي نعيش فيها،مصاعب ومصائب لابدّ منها،ومُنغصات ومُكدرات لابد من معايشتها،فإما أن تُداريها بالصبر فتنال الأجر،وإما أن تتبرم بها وتثور عليها،فتزيد ثورتك من عذابك،ويزيد غيظك من بلوائك،وأنت في الحالين من الأخسرين،وفي الدارين.

والصبر على البلاء والضراء أي الصبر الذي يخالف الهوى فهو ثلاثة أقسام:

الأول:الصبر على الطاعات:

إن الصبرعلى الطاعة أساس من أركان الإسلام اللازمة تحتاج في القيام بها والمداومة عليها إلى التحمل والمعاناة.فالصلاة فريضة متكررة ،وتحتاج إلى الصبر بالمواظبة عليها والقيام بها على أحسن وجه،وقد يقوم بها البعض وهم كسالى ولذا قال تعالى:{وأمُر أهلَكَ بالصَّلاةِ واصطَبِرْ عليها}[طه132].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“فأول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم،وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي تصلهم معه بالله،فتوحد اتجاههم العلوي في الحياة.وما أروح الحياة في ظلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى الله.

“واصطبر عليها”..عل إقامتها كاملة،وعلى تحقيق آثارها.إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر,وهذه هي آثارها الصحيحة.وهي في حاجة إلى اصطبار على البلوغ بالصلاة إلى الحد الذي تثمر فيه ثمارها هذه في المشاعر والسلوك.وإلا فما هي صلاة مقامة.إنما هي حركات وكلمات”.

وقال تعالى:{واستعينوا بالصّبر والصّلاة وإنَّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين}[البقرة 45].وقال تعالى:{رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ وما بينَهُما فاعبُدهُ واصطبِرْ لعبادتِهِ هل تعلمُ لهُ سَميّاً}[مريم 65].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“اعبده واصطبرعلى تكاليف العبادة.وهي تكاليف الارتقاء إلى أفق المثول بين يدي المعبود،والثبات في هذا المرتقى العالي.اعبده واحشد نفسك وعبىء طاقتك للقاء والتلقي في ذلك الأفق العلوي..إنها مشقة.مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل شاغل،ومن كل هاتف ومن كل التفات…وإنها مع المشقة للذة لايعرفها إلا من ذاق.ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة،وإلا بالتجرد لها،والاستغراق فيها،والتحفز لها بكل جارحة وخالجة.فهي لاتفشي سرها ولاتمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها،ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعاً.

“فاعبده واصطبر لعبادته”..والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر.إنما هي كل نشاط:كل حركة.كل خالجة.كل نية.كل اتجاه.وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه.مشقة تحتاج إلى الاصطبار.ليتوجه القلب في كا نشاط الأرض إلى السماء.خالصاً من أوشاب الأرض وأوهاق الضرورات،وشهوات النفس،ومواضعات الحياة”.

ومن العبادات ما يكره بسبب البخل كالزكاة،ومنها مايكره لعدّة أسباب مجتمعة كالحج والجهاد مثلاً،كما أن عشرة المؤمنين والإبقاء على الصلة بهم ومودتهم والإغضاء عن هفواتهم وأخطائهم يحتاج للصبر الجميل:{واصبِرْ نَفسكَ مع الذين يَدعُونَ رَبَّهُم بالغَداةِ والعَشِي يُريدونَ وَجهَهُ ولا تَعدُ عيناكَ عنهم}[الكهف28].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“واصبر نفسك” ..لا تمل ولا تستعجل “مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه”…فالله غايتهم،يتجهون إليه بالغداة والعشي،لا يتحولون عنه،ولا يبتغون إلا رضاه.وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة.

اصبر نفسك مع هؤلاء.صاحبهم وجالسهم وعلمهم.ففيهم الخير،وعلى مثلهم تقوم الدعوات.فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة،ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع،ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع،وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع!إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له،لا تبغي جاهاً ولا متاعاً ولا انتفاعاً،إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه”.

وقال تعالى:{وجَعَلنا بَعضَكُم لبعضٍ فتنةً أتصبرُونَ وكانَ رَبُّكَ بصيراً}[الفرقان 20]،{فاصبِرْ كما صَبرَ أُولُوا العَزمِ من الرُّسُلِ ولا تَستعجل لهم}[الأحقاف 35].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“وكل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم،وكل عبارة وراءها عالم من الصور والظلال،والمعاني والإيحاءات،والقضايا والقيم.

فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل..توجيه يقال لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي احتمل ما احتمل،وعانى من قومه ما عانى.وهوالذي نشأ يتيماً،وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحداً بعد واحد.الأب.والأم.والجد.والعم.والزوج الوفية الحنون.وخلص لله ولدعوته مجرداً من كل شاغل.كما هو مجرد من كل سند أو ظهير.وهو الذي لقي من أقاربه من المشركين أشد مما لاقى من الأبعدين.وهو الذي خرج مرة ومرة ومرة يستنصر القبائل والأفراد فرد في كل مرة بلا نصرة.وفي بعض المرات باستهزاء السفهاء ورجمهم له بالحجارة حتى تدمى قدماه الطاهرتان،فما يزيد على أن يتوجه إلى ربه بذلك الإبتهال الخاشع النبيل.

وبعد ذلك كله يحتاج إلى توجيه ربه:”فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولاتستعجل لهم…ألا إنه لطريق شاق،طريق هذه الدعوة.وطريق مرير.حتى لتحتاج نفس كنفس محمد صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها للدعوة،وفي ثباتها وصلابتها،وفي صفائها وشفافيتها.تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الإستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين.

نعم.وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة،وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر.وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهي المختوم”.

يقول الأستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ رحمه الله:

“إذا كان الصبر خلقاً ضرورياً وصفةً لازمة للداعية،فإنّ مما يزين للمرء التحلي بها والتعود عليها أن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القمة الشامخة في هذا الموضوع.

إنّ في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثالاً حياً ومثلاً أعلى للصبر البناء المُعَلّم…الصبر الذي لا يبالي بالعقبات ولا بالصعوبات…

لقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين آمنوا معه التعذيب والتكذيب والأذى،وقاطعه قومهُ مقاطعةً اجتماعيةً واقتصادية،ومكروا في محاربته مكراً كُبّار،وخططوا لقتله والوقوف في وجه دعوته في الليل والنهار،ولاحقوا أتباعه المهاجرين حتى الحبشة…ومع ذلك فقد كان يقابل ذلك بصبر مقترن بالرجاء،صبرٍ على الإعراض وصبرٍ على الإيذاء.

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:”هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟قال:”لقد لقيتُ من قومك،وكان أشدُّ مالقيته منهم يوم العقبة،إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت،فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي،فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب،فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني،فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام،فناداني فقال:إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك،وقد بعث إليك ملك الجبال،لتأمره بما شئت فيهم.فناداني ملك الجبال، فسلّم عليَّ ثم قال:يامحمد إن الله قد سمع قول قومك لك،وأنا ملك الجبال،وقد بعثني ربّي إليك لتأمرني بأمرك فما شئت،إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين؟فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لايشرك به شيئاً[متفق عليه]والأخشبان الجبلان المحيطان بمكة.

ومن المعروف في السيرة أنه صلوات الله عليه لما جهر بالدعوة سخرت منه قريش واستهزؤوا به في مجالسهم،فكان إذا مرّ عليهم يقولون:هذا ابن أبي كبشة يُكلّم من السماء…هذا غلام عبد المطلب يكلّم من السماء…لايزيدون على ذلك.

وكان أبوجهل من أشدّ المشركين إيذاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم…قال عبد الله بن مسعود:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو يصلي،فقال أبو جهل:ألا رجلٌ يقوم إلى فرث جذور بني فلان فيلقيه على محمد وهو ساجد؟فقام عقبة بن أبي معيط وجاء بذلك الفرث فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد،فلم يقدر أحدٌ من المسلمين الذين كانوا في المسجد على إلقائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم،ولم يزل عليه السلام جالساً حتى جاءت فاطمة بنته،فأخذت القذر ورمته،فلما قام دعا على من صنع هذا الصّنع القبيح وسمى أقواماً،قال ابن مسعود:فرأيتهم قُتلوا يوم بدر”[رواه البخاري].

واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الدعوة يخطو والأمل يملأ جوانب نفسه الكبيرة…وقد حقق الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما كان يرجو،فلم يمض وقتٌ طويلٌ حتى ولّى صناديد الشرك…وإذا أبناؤهم وأعقابهم يدخلون في دين الله أفواجاً،وإذا كلمة التوحيد تعمّ جزيرة العرب…ويصبح هذا الرسول الكريم الذي كان قبل حينٍ مُطارداً مهاجراً سيّد الزيرة،جزيرة العرب،ويصبح خلفاؤه بعد زمنٍ يسيرٍ سادة الكون كله”.

وهو أيضاً الصبر على التمسك بالدين في هذا الزمان الفاسد الذي عاد فيه الإسلام غريباً كما بدا غريباً وصار القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر،وأصبح المؤمن فيه عرضة للسخرية والأذى والتشهير والتعذيب والنفي والتشرد وربما القتل.فمن احتمل ذلك كله صبراً واحتساباً كان من الذين قال الله عنهم:{ أولئكَ يُؤتونَ أجرَهُم مَّرَّتينِ بما صَبروا ويدرؤنَ بالحسنةِ السَّيئة ومّما رزقناهم ينفقون}[القصص 54]

الثاني: الصبر عن المعاصي:

فالمعاصي كثيرة وهي مترافقة مع المتعة الرخيصة الموقوتة الآنية،وهي لذيذة على النفس الأمّارة بالسوء،فإن امتنع عنها مع تمكنه منها كان من الصابرين.كصبر الشاب الذي يرى العورات البادية والمتاحة في كل زاوية وفي كل مكان،ونفسه تميل إليها ولكنه يغضّ البصر خوفاً من الله،ويبتعد عنها وعن سبيل اللذّة المحرمة رهبة من الله،ورغبة في ثوابه ومرضاته،وما أحوج العبد في كل زمان ولكن بشكل خاص في هذا الزمان حيث حُفَّت النار بالشهوات وحُفَّت الجنّة بالمكاره إلى الصبر عن محارم الله وعن اللذّات المُحرّمة مع القدرة عليها ـ وما أسهل الحصول عليها في هذا الزمان  ـ وهذا يعتبر من أعظم أنواع الصبر،وله في سيدنا يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم رضي الله عنهم أجمعين قدوة وأسوة حسنة.

يقول عمر الفاروق رضي الله عنه:”الصبر صبران:صبر عند المصيبة حسن،وأحسن منه الصبر عن محارم الله”.

ويقول سعيد بن جبير رضي الله عنه:”إن الصبر على الطاعات وعن المحرمات أفضل من الصبرعلى الأقدار المؤلمة،فطوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره”.

الثالث: الصبر على أقدار الله:

والصبر على أقدار الله هو ما لايدخل تحت الاختيار،كالمصاب في موت الأحبة،أو هلاك الأموال،أو زوال الصحة،وسائر أنواع البلاء.

والصبر على أقدار الله المؤلمة وعدم الجزع واحتساب الثواب عند الله من أعلى المقامات لأن سنده اليقين،وقريب منه الصبر على أذى الناس بترك المكافأت.يقول تعالى:{وإن تصبروا وتتقوا  فإن ذلك من عزم الأمور}[آل عمران 186]،ويقول تعالى:{ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}[النحل 126]،ويقول تعالى:{ولَمَنْ صَبرَ وغفَرَ إنَّ ذلكَ لَمِنْ عَزمِ الأمورِ}[الشورى 43].

يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله:يقول تعالى:{واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}[لقمان17]،ويقول في موضع آخر:{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}[الشورى 43].

يقول الشيخ رحمه الله:زادت هنا اللام،والمسلم حين يدقق في معاني القرآن الكريم يجد أن كل حرف في القرآن قد تم وضعه بحكم بالغة.وأنه لاشيء اسمه مترادفات،وإنما لكل لفظ معنى يؤديه،ولا يؤديه اللفظ الآخر رغم التشابه.فإذا دققنا في المعنى نجد مايلي:في الآية الأولى يقول الله سبحانه وتعالى”واصبر على ما أصابك”والأمر الذي يصيب الانسان نوعان:نوع للإنسان فيه غريم،ونوع لا يوجد فيه غريم.عندما أمرض ليس لي غريم،وإذا أصابني مكروه بقضاء وقدر ليس هناك غريم.إنما عندما أسير في الشارع ويعتدي علي إنسان بالضرب،هناك لي غريم.

فهناك نوعان من الصبر:صبر النفس فيما ليس لي منه غريم ،وهذا هين لأنه ليس هناك إنسان أنفعل عليه،ولا أملك أن أردعه من شيء قد حدث لي،ماحدث هو قضاء الله وقدره وأنا ليس لي أمام هذا إلا الصبر،وهذا النوع من الصبر لا يحتاج إلى طاقة كبيرة ليمارسه الإنسان لأنه ليس هناك غريم .والنوع الثاني من الصبر يحتاج إلى جَلَد أكبر،ويحتاج إلى قوة الإرادة،وهذا النوع الذي يوجد فيه غريم أستطيع أن أنتقم منه وأستطيع أن أصفح وأغفر.إذن عندما يتحدث الله سبحانه وتعالى عن الصبر بنوعيه،ويعطي لكل نوع ما يستحقه من وصف للنفس البشرية،فهو عندما يتحدث عن الصبر عن شيء ليس لي فيه غريم يقول:{واصبِرْ على ما أصَابكَ إنَّ ذلكَ من عزمِ الأمور}[لقمان17]،وعندما يتحدث عن الصبر الذي لي فيه غريم يقول:{ولَمَن صبرَ وغَفرَ إنَّ ذلكَ لَمِنْ عزمِ الأمور}[الشورى43]وهنا تأتي اللام للتأكيد،حيث يحتاج الصبر إلى جلد وضبط للنفس”.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:”مشقة الصبر بحسب قوة الداعي إلى الفعل وسهولته على العبد،فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران،كان الصبر عنه أشقَّ شيء على الصابر،وإن فقدا معاً سهل الصبر عنه،وإن وجد أحدهما وفقد الآخر،سَهُل الصبر من وجه،وصعُب من وجه،فمن لاداعي له إلى القتل والسرقة وشرب المسكر وأنواع الفواحش،ولا هوسهلٌ عليه،فصبره عنه من أيسر شيء عليه وأسهله،ومن اشتدَّ داعيه إلى ذلك وسهل عليه فعله،فصبره عنه أشق شيء عليه،ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم،وصبر الشباب عن الفاحشة،وصبر الغني عن تناول اللذات والشهوات عند الله بمكان.

ولذلك استحق السبعة المذكورون في الحديث أن يظلهم الله في ظل عرشه،لكمال صبرهم ومشقته”.[عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين}

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله:”مراتب الناس في المقدور ثلاثة:الرضا وهو أعلاها،والسخط وهو أسفلها،والصبر عليه بدون الرضا وهو أوسطها،فالأول للمقربين السابقين،والثالثة للمقتصدين،والثانية للظالمين”.

آداب الصبر:

إن للصبر آداباً على الإنسان المؤمن الصابر أن يتحلّى بها ليكون صبره الصبر الجميل الحسن،وليحظى بثواب الله وفضله. فمن آداب الصبر:

1 ـ استعماله في أول الصدمة:

جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي عند قبر،فقال:اتقي الله واصبري.فقالت:إليك عني،فإنك لم تُصَب بمصيبتي ـ ولم تعرفه ـ فقيل لها:إنه النبي صلى الله عليه وسلم،فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين،فقالت:لم أعرفك.فقال:إنما الصبر عند الصدمة الأولى”.

فالصبر الذي يُحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة،بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يُنسى.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله(عدة الصابرين):

“فإنّ مفاجئات المصيبة بغتة لها روعة تزلزل القلب،وتزعجه بصدمها،فإن صبر الصدمة الأولى انكسر حدها،وضعفت قوتها،فهان عليه استدامة الصبر،وأيضاً فإن المصيبة ترد على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه،وهي الصدمة الأولى،وأما إذا وردت عليه بعد ذلك توطّن لها،وعلم أنه لابد منها فيصير صبره شبيه الاضطرار”.

وكذلك لا بد من الثبات على الصبر فهو أشدّ من الصبر نفسه،وإن الرضى بالحرمان أشدّ من الحرمان نفسه،وما كل صابر ثابت ،ولا كل محروم راض،ولا كل نائحة ثكلى،ولا كل عبوس حزين.

2 ـ الاسترجاع عند المصيبة:

وهو أن يقول”إنا لله وإنا إليه راجعون وذلك استناداً لقوله تعالى:{وبشر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}[البقرة 155 ـ 156]وما أروع هذا التسليم،لله تعالى وحده التسليم المطلق،تسليم الألتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجهاً لوجه بالحقيقة وبالتصور الصحيح.

يقول سيد قطب رحمه الله:

“إنا لله..كلنا..كل ما فينا..كل كياننا وذاتينا…لله..وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير…التسليم…التسليم المطلق…تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجهاً لوجه بالحقيقة الوحيدة،وبالتصور الصحيح”.

روى الإمام أحمد رضي الله عنه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً سررت به”ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله:إنا لله وإنا إليه راجعون . اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف الله له خيراً منها[رواه مسلم]

وحين توفي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على قبره فقالت:”نضَر الله وجهك يا أبت،وشكر الله صالح سعيك.فلقد كنت للدنيا مُذلاً بإدبارك عنها،وللآخرة مُعزاً بإقبالك عليها.ولئن كان أجَلّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزؤك،وأعظم المصائب بعده فقدك إن كتاب الله ليعد بحسن الصبرعنك حسن العوض منك.و أنا أستنجز موعود الله فيك بالصبر،واستقضيه بالاستغفار لك.أما لئن قاموا بأمر الدنيا لقد قمت بأمر الدين كما وهن شعبه(أي ضعف جمعه) وتفاقم صدعه،ورجفت جوانبه.فعليك سلام الله توديع غير قالية(كارهة) لحياتك،ولا زارية(لائمة) على القضاء فيك”.[العقد الفريد والبيان والتبيين للجاحظ]

3 ـ حمدُ الله والاستسلام لقضائه:

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي”إذا مات ولد العبد قال الله  عزّ وجلّ لملائكته قبضتم ولدَ عبدي ؟فيقولون:نعم.فيقول:قبضتم ثمرة فؤاده؟فيقولون:نعم.فيقول:ماذا قال عبدي؟فيقولون:حمدك واسترجع.فيقول:ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد”.[رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأخرجه الترمذي وقال إسناده صحيح]

كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى أحد عماله بعد أن عزّاه في موت ابنه:

بسم الله الرحمن الرحيم.أما بعد.فإن هذا الأمر قد وطنّا أنفسنا عليه.فلما نزل لم نُنكره.والسلام.

يقول شريح القاضي:”إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها لأربعة وجوه:أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي،وأحمده إذ رزقني الصبر عليها،وأحمده إذ وفقني للاسترجاع على ما أرجو فيه الثواب،وأحمده إذ لم يجعلها في ديني”.

4 ـ سكون الجوارح واللسان:

فلا يجوز شق الجيوب ولطم الخدود وتجاوز القول باللسان.

جاء في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”ليس منّا من ضربَ الخدودَ،أو شقّ الجيوبَ،أو دعا بدعوى الجاهلية.[رواه عبد الله بن مسعود وأخرجه مسلم]

وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة”.

(الصالقة:التي ترفع صوتها عند المصيبة،الحالقة:التي تحلق شعرها عند المصيبة،الشاقة:التي تشقّ ثوبها عند المصيبة).

ولقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل على امرأة مريضة فوجدها تلعن الداء وتسبُّ الحمى،فكره هذا المسلك وقال لها مواسياً:إنها ـ أي الحمى ـ تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد[رواه مسلم].

وعن أسامة بن زيد قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أن ابناً لي قُبض فأتنا،فأرسل يقريء السلام ويقول:” إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى،فلتصبر ولتحتسب“،فأرسلت إليه تُقسم عليه أن ليأتينها،فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال،فرُفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونفسه تتقعقع ـ قال أي الراوي ـ حسبت أنه قال أي أسامة ـ كأنها شَن ففاضت عيناه،فقال سعد يا رسول الله ما هذا؟قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده،فإنما يرحم الله من عباده الرحماء“[أخرجه البخاري] وفي هذا ما يدل على جواز البكاء ولكن بدون أن تصدر عن المحزون أصوات وصراخ.

يقول الأستاذ العقاد (عبقرية محمد) معقباً على هذه الحادثة:”ماهذا يا رسول الله؟

هذا رسول الله في أصدق ماتكون عليه رسالة الرسل:في الرحمة،وفي الآصرة الإنسانية،وغير هذا لن يكون”.

وكذلك بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم(من ماريا القبطية)وقال:”إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا مايرضي ربنا وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون”.

يقول الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله(عبقرية محمد):

مات الطفل ولما يدرك السنتين.مصاب صغير إن كانت المصائب تقاس بسنوات المفقودين.ولكن المصائب في الأعزاء إنما تقاس بمبلغ عطفنا عليهم،والصغير أحوج إلى العطف من الكبير المستقل بشأنه.إنما تقاس آلام المفقودين بأعمار الفاقدين،وأي مصاب أفدح من مصاب الستين وما بعدها في الأمل الوحيد الواصل بينها وبين الزمان ماضيه وآتيه؟

ما تخيلت محمداً(صلى الله عليه وسلم)في موقف أدنى إلى القلوب الإنسانية من موقفه على قبر الوليد الصغير ذارف العينين مكظوم الوجد،ضارعاً إلى الله…نفس قد نفثت الرجاء في نفوس الألوف بعد الألوف،وهي في ذلك الموقف قد انقطع لها رجاء عزيز:رجاء واسفاه لا يحييه كل ما ينفثه المصلح في الدنيا من رجاء.

ويتابع العقاد:”وفضل النبي في نبوته وفي أبوته أنه حزن وبكى،وتلك هي الصلة بينه وبين قلب الإنسان ،وبينه وبين الناس،وأي نبي تنقطع بينه وبين القلب الإنساني صلة كهذه الصلة التي تجمع أشتات القلوب؟”.

ويتابع العقاد:”وصرخ أسامة حين بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:”البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان”.حزن كما ينبغي له أن يحزن..أما الحزن الذي لا ينبغي له فهو الصراخ الذي نهى عنه”.

5 ـ عدم ظهور المَصاب على المُصاب:

قال ثابت البناني:مات عبدالله بن مطرف،فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادّهن فغضبوا وقالوا يموت عبد الله ثم تخرج في ثياب من هذه مدهناً؟قال:افا أستكين لها وقد وعدني ربي تبارك وتعالى ثلاث خصال وكل خصلة منها أحبّ إليَّ من الدنيا وما فيها. قال تعالى:{وبشر الصابرين *الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون *أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.[البقرة 155 ـ 157]

وكان صلة بن أشيم في مغزىً له ومعه ابنه فقال أي بني تقدّم فقاتل حتى احتسبك،فحمل فقاتل حتى قَتل ثم تقدّم فَقُتل.فاجتمع النساء عند أمه معاذة العدوية فقالت:مرحباً إن كنتن جئتن تهنئنني،وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن”.

يقول سعيد بن جبير رحمه الله:الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه،واحتسابه عند الله رجاء ثوابه،وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر”.

وقال ابن عطاء الله السكندري:الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.

وقال ذو النون المصري:”الصبر التباعد عن المخالفات،والسكون عند تجرع غصص البلية”.

6 ـ كتمُ المَصاب:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:”إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين فقال: انظروا ما يقوله لعوّاده؟فإن هو حمد الله تعالى إذا دخلوا عليه رفعوا ذلك إلى الله تعالى وهو أعلم ،فيقول لعبدي :إن أنا توفيته أن أدخله الجنة،وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه،وأن أكفر عنه سيئاته“.[رواه مالك في الموطأ،والمنذري في الترغيب، حديث ضعيف]

والصبر هو حبس النفس عن المكروه،والصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولامعه،والشكوى لا تنافي الصبر كما قال يعقوب عليه السلام{قالَ إنّما أشكُو بَثِّي وحُزني إلى الله}[يوسف86]،وكذلك أيوب عليه السلام:{وأيُّوبَ إذ نادى رَبَّهُ أنّي مَسَّنيَ الضُّرَّ وأنتَ أرحمُ الرَّاحمينَ}[الأنبياء 83]وإنما يُنافي الصبر شكوى الله لا الشكوى إلى الله.

قال أبو العباس محمد بن أحمد بن الصلت سمعت عبد الرحمن المتطبب يقول دخلت على أحمد بن حنبل أعوده،فقلت كيف تجدك؟فقال:أحمد الله إليك.أنا بعين الله.ثم دخلت على بشر بن الحارث فقلت كيف تجدك؟ فقال أحمد الله إليك.أجد كذا ،أجد كذا.فقلت أما تخشى أن يكون هذا شكوى؟فقال:حدثنا المعافى ابن عمران عن شعبان عن سعد عن منصور عن ابراهيم عن علقمة الأسود قال سمعنا عبد الله بن مسعود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك“.فدخلت على أحمد بن حنبل فحدثته فكان إذا سألته قال أحمد الله إليك.أجد كذا وكذا”.

7 ـ الاحتساب:

أي احتساب الثواب عند الله تعالى.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:”حسبنا الله ونعم الوكيل قالها ابراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:{إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل[رواه البخاري]

يروى أن عروة ابن الزبير بن العوام رضي الله عنهما وهو أحد فقهاء المدينة السبعة،شكا مرضاً في رجله فكان لابد من قطعها،وعرضوا عليه الخمر ليسكروه،فلا يحس بألم القطع،فقال لا أستعين على قدر الله بمعصية الله،فأرادوا أن يشربوه المرقد(البنج)فقال لا،فإني لا أحب أن أُسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك لاحتسبه عند الله.قالوا فكيف نفعل بك إذاً؟قال:دعوني أصلي.فإذا قمت للصلاة فشأنكم وما تريدون.(وقد كان رحمه الله إذا قام يصلي سهى عن كل ما حوله وتعلق قلبه بالله تعالى).وبالفعل قام يصلي وتركوه حتى سجد،فكشفوا عن ساقه وقطعوا اللحم حتى وصلوا للعظم،ثم أخذوا المنشار ونشروا العظم،حتى قطعوا الساق كاملة وهو ساكن مطمئن بصلاته لم يحرك ساكناً..وأرادوا إيقاف نزيف الدم فسكبوا على الجرح الزيت المغلي،وعنده فقط لم يحتمل حرارة الزيت فأغمي عليه.وفي هذه الأثناء أتى الخبر من خارج القصر أن ابن عروة بن الزبير كان يتفرج على خيول الخليفة في الاسطبل،وقد رفسه أحد الخيول فوقع ميتاً.فذهب الخليفة(الوليد بن عبد الملك) إلى عروة بن الزبير بعد أن أفاق،وقال:أحسن الله عزاءك في رجلك.فقال عروة:اللهم لك الحمد وإنا لله وإنا إليه راجعون.قال الخليفة:وأحسن الله عزاءك في ابنك.فقال عروة:اللهم لك الحمد وإنا إليه راجعون،أعطاني سبعة أبناء وأخذ واحداً،وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحداً،إن ابتلى فطالما عافى،وإن أخذ فطالما أعطى،وإني أسأل الله أن يجمعني بهما في الجنة.

وروي أن عبد الملك بن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما مات دفنه عمر ثم استوى قائماً فأحاط به الناس فقال: رحمك الله يا بني،قد كنت براً بأبيك،والله مازلت منذ وهبك الله لي مسروراً بك،ولا والله ما كنت قطّ أشدَ بك سروراً ولا أرجى بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيّرك الله إليه.فغفر الله ذنبك،وجزاك بأحسن عملك،وتجاوز عن سيئتك،ورحم الله كل شافع يشفع لك بخير من شاهد أو غائب.رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره،فالحمد لله رب العالمين ثم انصرف(البيان والتبيين للجاحظ).

ولما أقبلت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنظر إلى شقيقها حمزة رضي الله عنه يوم استشهد في أحد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابنها الزبير بن العوام أن يلقاها فيرجعها حتى لا ترى ما بأخيها،فلقيها وقال لها يا أمة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي.قالت ولم وقد بلغني أنه مُثّل بأخي وذلك من الله،فما أرضانا بما كان من ذلك لاحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.فلما جاء الزبير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالت قال له خلِّ سبيلها.فأتته  ونظرت إليه ثم صلت عليه واسترجعت واستغفرت له.

وانظر معي إلى كاتب من أحسن كتاب القرن العشرين وصاحب مجلة الرسالة وكيف توجه إلى الله محتسباً مؤمناً صابراً بعد أن فقد ولده .يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات رحمه الله في مقال بعنوان”ولدي”نشر في السادس من نيسان عام 1936(وحي الرسالة ج1 ص310):

“يا قارئي أنت صديقي فدعني أرق على يديك هذه العبرات الباقية!هذا ولدي كما ترى،رزقته على حال عابسة كاليأس،وكهولة يائسة كالهرم،وحياة باردة كالموت،فأشرق في نفسي إشراق الأمل،وأورق في عودي إيراق الربيع،وولد في حياتي العقيمة معاني الجدة والاستمرار والخلود!

كنت في طريق الحياة كالشارد الهيمان،أنشد الراحة ولا أجد الظل،وأفيض المحبة ولا أجد الحبيب،وألبس الناس ولا أجد الأنس،وأكسب المال ولا أجد السعادة،وأعالج العيش ولا أدرك الغاية.كنت كالصوت الأصم لا يرجعه صدى،وكالروح الحائر لا يقرُّه هدى،وكالمعنى المبهم لايحدده خاطر.كنت كالآلة نتجتها آلة واستهلكها عمل،فهي تخدم غيرها بالتسخير،وتميت نفسها بالدءوب،ولا تحفظ نوعها بالولادة.فكان يصلني بالماضي أبي،ويمسكني بالحاضر أجلي،ثم لا يربطني بالمستقبل رابط من أمل أو ولد.فلما جاء(رجاء)وجدتني أولد فيه من جديد.فأنا أنظر إلى الدنيا بعين الخيال،وأبسم إلى الوجود بثغر الأطفال،وأضطرب في الحياة اضطراب الحي الكامل،يدفعه من ورائه طمع،ويجذبه من أمامه طموح!شعرت بالدم الحار يتدفق نشيطاً في جسمي،وبالأمل القوي ينبعث جديداً في نفسي،وبالمرح الفتي يضج لاهياً في حياتي،وبالعيش الكئيب تتراقص على حواشيه عرائس المنى!فأنا ألعب مع رجاء بلعبه،وأتحدث إلى رجاء بلغته،وأتبع عقلي هوى رجاء فأدخل معه في كل ملهى دخول البراءة،وأطير به في كل روض طيران الفراشة.ثم لم يعد العمل الذي أعمله جديراً بعزمي،ولا الجهد الذي أبذله كفاء لغايتي،فضاعفت السعي،وتجاهلت النَصَب،وتناسيت المرض،وطلبت النجاح في كل وجه!ذلك لأن الصبي الذكي الجميل أطال حياتي بحياته،ووسع وجودي بوجوده،فكان عمري يغوص في طوايا العدم قليلاً ليمد عمره بالبقاء،كما يغوص أصل الشجرة في الأرض ليمد فروعها بالغذاء.

شغل رجاء فراغي كله،وملأ وجودي كله.حتى أصبح هو شغلي ووجودي!فهو صغيراً أنانوأنا كبيراً هو.ياكل فأشبع،ويشرب فأرتوي،وينام فأستريح،ويحلم فتسبح روحي وروحه في إشراق سماوي من الغبطة لا يوصف ولايحد.

ماهذا الضياء الذي يشع في نظراتي؟ماهذا الرجاء الذي يشيع في بسماتي؟ما هذا الرضا الذي يغمر نفسي؟ماهذا النعيم الذي يملأ شعوري؟ذلك كله انعكاس حياة على حياة،وتدفق روح في روح،وتأثير ولد في والد؟

ثم انقضت تلك السنون الأربع،فصوَّحت الواحة وأوحش القفر،وانطفأت الومضة وأغطش الليل،وتبدّد الحلم وتجّهم الواقع،وأخفق الطب ومات رجاء!

يا جبار السموات والأرض رُحماك!أفي مثل خفقة الوسنان تُبدَّل الدنيا غير الدنيا،فيعود النعيم شقاء والملاء خلاء والأمل ذكرى؟أفي مثل تحية العجلان يصمت الروض الغرد،ويسكن البيت اللاعب،ويقبح الوجود المجيل؟

حنانيك يا لطيف!ماهذا اللهيب الغريب الذي يهب على غشاء الصدر ومزاق البطن فيرمض الحشا ويذيب لفائف القلب؟اللهم هذا القضاء فأين اللطف؟وهذا البلاء فأين الصبر؟وهذا العدل فأين الرحمة؟

إن قلبي ينزف من عيني عبرات بعضها صامت وبعضها معول!فهل لبيان الدمع ترجمان،ولعويل الثاكل ألحان؟إن اللغة كون محدود فهل تترجم اللانهاية!وإن الآلة عصب مكدود فهل تعزف الضرم الواري؟إن من يعرف حالي قبل رجاء وحالي معه يعرف حالي بعده!أشهد لقد جزعت عليه جزعاً لم يغن فيه عزاء ولا عظة!كنت أنفر ممن يعزيني عنه لأنه يهينه،وأسكن إلى من يباكيني عليه لأنه يُكبره،وأستريح إلى النادبات يندبن القلب الذي مات والأمل الذي فات والملك الذي رُفع؟

لم يكن رجاء طفلاً عادياً حتى أملك الصبر عنه وأطيع السلوان فيه.إنما كان صورة الخيال الشاعر ورغبة القلب المشوق!كان وهو في سنه التي تراها في صورته يعرف أوضاع الأدب،ويدرك أسرار الجمال،ويفهم شؤون الأسرة،ويؤلف لي(الحواديت)كلما ضمني وإياه مجلس السمر!كان يجعل نفسه دائماً بطل(الحدوتة)فهو يصرع الأسود التي هاجمت الناس من حديقة الحيوانات،ويدفع(العساكر)عن التلاميذ في أيام المظاهرات،ويجمع مساكين الحي في فناء الدار ليوزع عليهم ماصاده ببندقيته الصغيرة من مختلف الطير!

والهف نفسي عليه يوم تسلل إليه الحِمام الراصد في وعكة قال الطبيب الغفلان إنها(البرد)،وقال القدر اليقظان بعد ثلاثة أيام إنها(الدفتريا)!لقد عبث الداء الوبيل بجسمه النضر كما تعبث الريح السّموم بالزهرة الغضة!ولكن ذكاءه وجماله ولطفه لم تبرح قوية ناصعة،تصارع العدم بحيوية الطفولة،وتحاجُّ القدر في حكمة الحياة والموت!

والهف نفسي عليه ساعة أخذته غصّة الموت،وأدركته شهقة الروح،فصاح بملء فمه الجميل :(بابا!بابا!)كأنما ظن أباه يدفع عنه مالايدفع عن نفسه!

لنا الله من قبلك ومن بعدك يارجاء،وللذين تطولوا بالمواساة فيك السلامة والبقاء!”.

هذا عزاء وصبر من قُبض ابنه وقرّة عينه،وحبّة قلبه،جعل الله مثواهما جميعاً في الجنة.

يعزي الكاتب العظيم أحمد أمين الزيات في ابنه رجاء قائلاً له(الرسالة العدد142):

“سعيت أمس لعزائك،في (رجائي)و(رجائك)،فرأيتك واجماً ساهماً،مولهاً مدلهاً،فانعقد لساني،وتخلف ذهني،وفاض دمعي.

وكيف أستطيع عزاءك وما استطعت أن أعزي نفسي؟أو كيف أستطيع أن أخفف مابك وما استطعت أن أخفف حزني؟

رأيت بك كمداً باطناً،وحزناً مكتمناً،فعلمت أنك تتجرع غصص الهم،وتختزن برحاء الكرب،فتمنيت أن تخفف عنك بصرخة،وتنفس عن نفسك بدمعة،ولكن عزّ الصبر،وعزّ الدمع،فما هي إلا زفرات تذيب لفائف القلوب وتنفطر لها المرائر.

وارحمتاه لك! لقد كان (رجاء)قبلة رجائك،ومعقد آمالك،وحديث أحلامك،وملء سمعك وبصرك،تشوفته حياتك،وترقبته مطلع شابك،حتى جاد به الزمان البخيل،فربطت أسبابك باسبابه،وتعلقت بأهدابه ،فلما شمت مخايله،ورقبت منه النجح،عدا عليه الدهر الذي لا يرعى ميثاقاً،ولا يثبت على عهد،فأخلف ظنّك ،ونقض أملك،فإذا الدنيا أضغاث أحلام،ووساوس أطماع.

ولكن يا أخي ـ ما الجزع مما لابد منه،وما الهلع مما قُدر،ومثلك من يعرف مقدار الحياة وهوانها،أفليست إلا مرسحاً تمثل عليه أدوار مختلفة،مرة مهزلة،ومة مأساة،ونحن في حين ممثلون،وفي حين ناظرون.وليس لنا أن نبالغ في الالم،ونغلو في الجزع لانفقد كان يكون لذلك وجه من الحق لو ذهب من ذهب أبداً،وعشنا بعده أبداًن،نما الأمر دور يعقب دوراً، ولا حق منا إثر سابق،وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأية سعادة نجدها في هذه الحياة حتى نحزن على الراحل،ونبكي على الميت،ونود أن لو بقى ليستمتع بها،ويتذوق طيباتها،إنما هي سلسلة عناء،وضروب شقاء،تنوّعت ألوانها،واتحدت حقيقتها،ولو أنصفنا لغبطنا من مات،وأشفقنا على من بقى،ومن مات في صباه فقد اختصر الحياة واختصر همومها وأحزانها،ووفر على نفسه عبئاً ثقيلاً ينتهي مختصره بما ينتهي مطوله،وخير للزهرة أن تذهب وهي ناضرة تعجب الناس،من أن تذهب وهي ذابلة يعافها الناس.

فخذ الحياة كما هي،ليل ينقضي في إثر ليل،وقوم في إثر قوم،وحادث يستذرف الدمع يعقبه حادث يخفف الهم،وكما قالت الخنساء:

فلولا كثرة الباكين حولي               على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن              أعزي النفس عنه بالتأسي

وليس الوفاء للميت بالإفراط في الحزن،والإمعان في البكاء،إنما الوفاء بمقابلة دواعي الحزن بدواعي الصبر،وليست الحكمة في إضعاف الحي من أجل الميت ،إنما هي في إحياء الحي من أجل الحي والميت.

وقد أخطأ الناس فغلوا في استفظاع الموت والاحتفاء به،وهولوا في الاستكثار من مظاهره،ولو عقلوا لقابلوه كما يقابل كل قانون طبعي في هذا العالم،زهرة تنضر وتذبل ،وشمس تطلع وتغرب،ونجم يتألق ويأفل،وسماء تصحو وتغيم،ولو عقلوا أيضاً لرددوا هذا المعنى في نفوسهم،واطمأنت له عقولهم،فإذا كان فهو ما تخيلوه،وإذا حدث فهو ما توقعوه ،وإذن لخفَّ الألم وانقطع الجزع.

أي أخي ـ ليكن ما أراده الله،ولنلوّن حياتنا بلون من ألوان التصوف،رضاء بالقد،واستخفاف بالعالم وما فيه،وطمأنينة إلى قوانينه وإيمان بعظمة الله وسلطانه،والتجاء إليه أن يتولاك برحمته ويظلك بإحسانه.

أي أخي ـ لقد أصبحت منسرق القوة،ضعيف البنية،مرهف الحس،رقيق الصحة،ولئن كان الانتحار جريمة لا تغتفر،ويأساً لا يرضاه الله ،فليس هو ـ فحسب ـ في إطلاق عيار ناري،أو إلقاء النفس في اليم،أو ما عهدت من ضروب إزهاق الروح،ولكن من ضروبه أيضاً الاستسلام للحزن والتسمم بالغم،والاسترسال في أسباب الكرب ،فهو انتحار بطيء ولكنه شر من الانتحار العاجل أعيذك بالله منه ،وأربأ بنفسك عنه.

فهوِّن على نفسك،وإن خاب رجاؤك في (رجاء)فحقق الله أملك في(علاء)وعش له ولنفسك وللناس.

أحسن الله عزاءك،وأجمل صبرك،وأجزل أجرك”.

وانظر معي إلى هذا الرثاء النبيل الجميل الذي يبعث الطمأنينة في القلب ويستجيب بإيمان لحكمة الرب كما جاء في مقال للأديب العظيم مصطفى لطفي المنفلوطي(الأعمال الكاملة ج1 ص33 بعنوان “الدفين الصغير”:

“الآن نفضت يدي من تراب قبرك يابني،وعدت إلى منزلي كما يعود القائد المنكسر من ساحة الحرب،لا أملك إلا دمعة لا أستطيع إرسالها،وزفرة لا أستطيع تصعيدها.

ذلك لأن الله الذي كتب لي في لوح مقاديره هذا الشقاء في أمرك فرزقني بك قبل أن اسأله إياك،ثم استلبنيك قبل أن أستعفيه منك،قد أراد أن يتمم قضاءه في،وأن يجرعني الكأس حتى ثمالتها،فحرمني حتى دمعة أرسلها أو زفرة أصعدها،حتى لا أجد في هذه ولا تلك ما أتفرج به مما أنا فيه فله الحمد راضياً وغاضباً،وله الثناء منعاً وسالباً،وله مني مايشاء من الرضا بقضائه والصبر على بلائه.

رأيتك يابني في فراشك عليلاً فجزعت.ثم خفت عليك الموت ففزعت،وكأنما كان يخيل إليَّ أن الموت والحياة شأن من شؤون الناس وعمل من الأعمال التي تملكها أيديهم،فاستشرت الطبيب في أمرك فكتب لي الدواء،ووعدني بالشفاء،فجلست بجانبك أصب في فمك ذلك السائل الأصفر قطرة قطرة،والقدر ينتزع من جنبيك الحياة قطعة قطعة،حتى نظرت فإذا أنت بين يدي جثة باردة لا حراك بها وإذا قارورة الدواء لا تزال في يدي.فعلمت أني قد ثكلتك!وأن الأمر أمر القضاء،لا أمر الدواء.

سأنام يابني بعد قليل على فراش مثل فراشك،وسيعالج مني المقدار ما عالج منك،وأحسب أن آخر ما سيبقى في ذاكرتي في تلك الساعة من شؤون الحياة وأطوارها،وخطوبها وأحداثها:هو الندم العظيم الذي لا أزال أكابد ألمه على تلك الجرع المريرة التي كنت أجرعك إياها بيدي وأنت تجود بنفسك،فيربد وجهك،وتختلج أعضاؤك،وتدمع عيناك،ومالك يد فتستطيع أن تمدها لتدفعني عنك ،ولا لسان فتستطيع أن تشكو إليَّ مرارة ما تذوق.

ما أسمج وجه الحياة من بعدك يابني!وما أقبح صورة هذه الكائنات في نظري!وما أشد ظلمة البيت الذي أسكنه بعد فراقك إياه!فلقد كنت تطلع في أرجائه شمساً مشرقة تضيء لي كل شيء فيه،أما اليوم فلا ترى عيني مما حولي أكثر مما ترى عينك الآن في ظلمات قبرك.

بكى الباكون والباكيات عليك ما شاؤوا،وتفجعوا ما تفجعوا،حتى إذا استنفدوا ماء شؤونهم،وضعفت قواهم عن احتمال أكثر مما احتملوا،لجأوا إلى مضاجعهم فسكنوا إليها،ولم يبقفي ظلمة هذا اليل وسكونه غير عينين قريحتين:عين أبيك الثاكل المسكين،وعين أخرى أنت تعلمها.

لقد طال علي الليل حتى مللته،ولكنني لا أسأل الله أن ينفرج لي سواده عن بياض النهار،لأن الفجيعة التي فجعتها بفقدك لم تبق بين جنبي بقية أقوى بها على رؤية أثر من آثار حياتك،فليت الليل باق حتى لا أرى وجه النهار،بل ليت النهار يأتي،فقد مللت هذا الظلام.

دفنتك اليوم يا بني ودفنت أخيك من قبل،ودفنت من قبلكما أخويكما فأنا في كل يوم أستقبل زائراً جديداً،وأودع ضيفاً راحلاً…فيا لله لقلب قد لاقى فوق ما تلاقي القلوب،وأحتمل فوق ما تحتمل من فوادح الخطوب.

لقد افتلذ كل منكم يابني من كبدي فلذة فأصبحت هذه الكبد الخرفاء مزقاً مبعثرة في زوايا القبور،ولم يبق لي منها إلا دماء قليل لا أحسبه باقياً على الدهر،ولا أحسب الدهر تاركه دون أن يذهب به كما ذهب بأخواته من قبل.

يابني،إن قدر الله لكم أن تتلاقوا في رضوة من رياض الجنة،أو على شاطىء غدير من غدرانها،أو تحت ظلال قصر من قصورها فاذكروني مثل ما أذكركم،وقفوا بين يدي ربكم صفاً واحداً كما يقف بين يديه المصلون ومدوا إليه أكفكم الصغيرة كما يمدها السائلون،وقولوا له:اللهم إنك تعلم أن هذا الرجل المسكين كان يحبنا وكنا نحبه،وقد فرقت الأيام بيننا وبينه،فهو لا يزال يلاقي من بعدنا شقاء الحياة وبأسائها ما لاطاقة له باحتماله،ولانزال نجد بين جوانحنا من الوجد به،والحنين إليه،ماينغص علينا هناء هذه النعمة التي ننعم بها في جوارك بين سمعك وبصرك،وأنت أرحم بنا وبه من أن تعذبنا عذاباً كثيراً فإما أن تأخذنا إليه أو تأتي به إلينا..لا،بل لا تطلبوا منه إلا أن يأتي بي إليكم.فإن الحياة التي كرهتها لنفسي لا أرضاها لكم،فعسى أن يستجيب الله من دعائكم مالم يستجب من دعائي فيرفع هذا الستار بيني وبينكم فنلتقي كما كنا”.

وانظر معي إلى أحدهم يعزي أحد أصحابه في فقد عزيز عليه(الأمالي للقالي ج2 ص98):

“إن الخلق للخالق،والشكر للمنعم،والتسليم للقادر،ولابدَّ مما هو كائن،وقد حلَّ ما يُدفع،ولاسبيل إلى رجوع ماقد فات،وقد أقام معك ما سيذهب عنك وستتركه،فما الجزعُ مما لابدَّ منه،وما الطمع فيما لا يُرجى،وما الحيلة فيما سيُنقل عنك أو تُنقل عنه،وقد مضت لنا أصول نحن فروعها،فما بقاء الفرع بعد الاصل!فأفضل الأشياء عند المصائب الصبر،وإنما أهل الدنيا سَفرٌ لا يحلُّون عن الرِّكاب إلا في غيرها،فما أحسن الشكرَ عند النِعم والتسليمَ عند الغِيَر!فاعتبر بمن قد رأيت من أهل الجزع،هل ردَّ أحدا منهم إلى ثقةٍ من دَرك؟واعلم أن أعظم من المصيبة سوءُ الخَلَف ،فأفِق والمرجعُ قريب، واعلم أنّما ابتلاك المُنعم وأخذ منك المُعطي،وما ترك أكثرنفإن نسيت الصبر فلا تغفل عن الشكر”.

وقد تصبر النفوس على ما يصيبها مكرهة لأنه لا حيلة لها في دفع المصيبة وفي هذا يستوي المسلم وغير المسلم ولكن الرضى والتسليم الكامل والإيمان بأن ما عند الله خير وأبقى وأن الباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً،هذا التسليم وهذا الرضى لا يكون إلا عند المسلم المؤمن،فالمؤمن هو الذي يسارع إلى احتساب النازلة أو المصيبة عند الله وهو مطمئن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه،وهو أمر صعب المنال إلا لمن أعانه الله على مجاهدة نفسه بأن لا تكون الدنيا أكبر همه ولامبلغ علمه.

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله(من مقال تعزية إلى أم):

“إن فقدتِ بنتك فهل فقدتِ(والعياذ بالله) إيمانكِ؟

في مثل هذه المواقف:مواقف الحزن واللوعة،يعرف المؤمن قيمة هذه النعمة التي هي الإيمان.

الملحد الذي لا يرى إلا هذه الحياة الدنيا يجنّ إن مات له عزيز،أو ينتحر…إنّه يتصوّر أنّه كان له ففقده،وكان معه ففارقه إلى الأبد.

أما المؤمن فيعلم أن الله هو الذي أعطى،وهو الذي أخذ،وأنّ بعد هذا الفراق لقاء،حيث يلتقي الصالحون في الجنّة،فهو يجتهد ليكون من أهل الصلاح ،ويسأل الله أن يرحم ميته ويجعله مع أهل الصلاح،ليكون هذا اللقاء لقاءً دائماً سعيداً لا فراق بعده.

هذا هو الفرق بين المؤمن والكافر..فأين إيمانك؟”.

الصبر الجميل:

أمر الله عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالصبر الجميل:{فاصبِرْ صبراً جميلاً}[المعارج5].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“والصبر الجميل هو الصبر المطمئن،الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد.صبر الواثق من العاقبة،الراضي بقدر الله،الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء،الموصول بالله المحتسب كل شيء عنده مما يقع به.وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة.فهي دعوة الله،وهي دعوة إلى الله.ليس له هو منها شيء.وليس له وراءها من غاية.فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله،وكل مايقع في شأنها هو من أمر الله.فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقاً مع هذه الحقيقة’ومع الشعور بها في أعماق الضمير.

ويتابع رحمه الله:”فاصبر صبراً جميلاً والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم تثبيتاً لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب.وتقريراً للحقيقة الأخرى:وهي أن تقدير الله للأمور غير تقدير البشر،ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة”إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً”.

وذكرت كلمة الصبر الجميل على لسان يعقوب عليه السلام في القرآن:{وجاؤوا على قميصه بدمٍ كذبٍ قالَ بلْ سَوَّلت لكم أنفسكم أمراً فَصبرٌ جميلٌ واللهُ المُستَعانُ على ما تَصِفونَ}[يوسف 18]وفي قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام:{قالَ بَلْ سَوَّلَت لَكُم أنفُسُكُم أمراً فصبرٌ جميلٌ عَسى اللهُ أن يأتِيني بهم جميعاً إنَّهُ هو العليمُ الحكيم}[يوسف 83].

يقول سيد قطب رحمه الله:”بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل”،كلمته ذاتها يوم فقد يوسف.ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه فيرد ابنه الآخر المتخلف هناك.

“إنه هو العليم الحكيم”:الذي يعلم حاله،ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات،ويأتي بكل أمر في وقته المناسب،عندما تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج.

هذا الشعاع من أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ؟إنه الرجاء في الله،والاتصال الوثيق بهنوالشعور بوجوده ورحمته.ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة فيصبح عندها أصدق واعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار”.

فما هو الصبر الجميل؟

يقول الإمام وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(مجلة المنار العدد 413):

إن الله أمر نبيه بالهجر الجميل،والصفح الجميل،والصبر الجميل،فالهجر الجميل هجر بلا أذى،والصفح الجميل صفح بلا عتاب،والصبر الجميل،صبر بلا شكوى،قال يعقوب عليه الصلاة والسلام{إنّما أشكو بَثِّي وحُزني إلى الله} [يوسف 86]مع قوله{فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون[يوسف 18]،فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل،ويروى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول:اللهم لك الحمد،وإليك المشتكى،وأنت المستعان،وبك المستغاث،وعليك التكلان”.ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي،وقلة حيلتي وهواني على الناس،أنت ربّ المستضعفين وأنت ربي،اللهم إلى من تكلني؟إلى بعيد يتجهمني،أم إلى عدو ملكّته أمري؟إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي،غير أن عافيتك هي أوسع لي.أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت الظلمات له،وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة،أن ينزل بي سخطك،أو يحل علي غضبك،لك العتبى حتى ترضى).

بخلاف الشكوى إلى المخلوق.يقول الإمام الجرجاني:”الصبر هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله”.

قرىء على الإمام أحمد في مرض موته أن طاووساً كره أنين المريض وقال:إنه شكوى.فما أنّ حتى مات.وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال،إما إزالة مايضره أو حصول ما ينفعه،والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه،كما قال تعالى{فإذا فَرغتَ فانصَب* وإلى رَبِّكَ فارغب}[الانشراح7 ـ 8]وقال صلى الله عليه وسلم لإبن عباس:”إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله”.[أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح]

ولابد للإنسان من شيئين طاعته بفعل المأمور،وترك المحظور،وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور،فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر،قال تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا}إلى قوله{وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً }[آل عمران 120]وقال تعالى{بَلى إن تَصبرُوا وتتَّقوا ويأتُوكُم من فَورِهمْ هذا يُمدِدْكُمْ رَبُّكُم بخمسةِ آلافٍ من الملائكةِ مُسَوِّمينَ}[آل عمران125]وقال تعالى:{لَتُبلَوُنَّ في أموالكُم وأنفُسِكُم ولَتَسمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتابَ من قَبلكُم ومن الذين أشركُوا أذىً كثيراً وإن تَصبرُوا وتتَّقوا فإنَّ ذلكَ من عزمِ الأمورِ}[آل عمران186]وقال يوسف عليه السلام:{أنّا يُوسُفُ وهذا أخي قد منَّ اللهُ عَلينا إنَّهُ من يَتَّقِ ويَصبِرْ فإنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجرَ المُحسنين}.[يوسف90]

فضل الصبر وأجره:

إن فضل الله وكرمه وهو أكرم الأكرمين تجاوز في عطائه وفضله عبده المؤمن المبتلى الصابر في دار البلاء والفناء إلى دار الجزاء والبقاء،فأعد له في الدنيا مقاماً كريماً،وإيماناً راسخاً،ويقيناً صادقاً،وكان البلاء في الدنيا تطهيراً للنفوس وتزكية للقلوب،وثواباً ما بعده ثواب،وعطاءً ليس بعده عطاء.

وللصبر ثمار عظيمة ومنافع في الدارين ومنها:

1 ـ الثناء من الله على أهله:

{الصَّابرين والصَّادقين والقانتينَ والمُنفقينَ والمستغفرين بالأسحار}[آل عمران 17].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة:

في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى،وثبات على تكاليف الدعوة،وأداء لتكاليف الحق،وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر،وقبول لحكمه ورضاه…

وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود،وترفع عن الضعف،فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق،اتقاء لضرر أو اجتلاباً لمنفعة.

وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية،وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه.

وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال،وانفلات من ربقة الشح،وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية،وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس!

والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالاً رفافة ندية عميقة…ولفظة “الأسحار”بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر.الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن،وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة!فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس،وفي ضمير الوجود سواء.وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارىء الكون وبارىء الإنسان”.

{والصّابرينَ في البأساءِ والضَّرّاَءِ وحينَ البأس}[البقرة 177].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“إنها تربية للنفوس وإعداد،كي لا تطير شعاعاً مع كل نازلة،ولاتذهب حسرة مع كل فاجعة،ولا تنهار جزعاً أمام الشدة.إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسراً.إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله.ولابد لأمة تناط بها القوامة على البشرية،والعدل في الأرض والصلاح،أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة.الصبر في البؤس والفقر.الصبر في المرض والضعف.والصبر في القلة والنقص.والصبر في الجهاد والحصار،والصبر على كل حال.كي تنهض بواجبها الضخم،وتؤدي دورها المرسوم،في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال”.

ومدح الله تعالى نبيه أيوب لإتصافه بالصبر فقال:{إنّا وجدناهُ صابراً نِعمَ العبد إنّهُ أوّاب}[ص44].فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابراً وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد.

2 ـ محبة الله لهم:

{واللهُ يُحبُّ الصَّابرينَ}]آل عمران 146].

يقول سيد قطب رحمه الله:

“الذين لا تضعف نفوسهم،ولا تتضعضع قواهم،ولا تلين عزائمهم،ولا يستكينون أو يستسلمون…والتعبير بالحب من الله للصابرين..له وقعه.وله إيحاؤه.فهو الحب الذي يأسو الجراح،ويمسح على القرح،ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير”.

3 ـ معية الله لهم:

{ إنَّ الله مع الصابرين}[البقرة 153].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“معهم،يؤيدهم،ويثبتهم،ويقويهم،ويؤنسهم،ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم،ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة،وقوتهم الضعيفة،إنما يمدهم حين ينفد زادهم،ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق..”؟

{واللهُ معَ الصابرين}[البقرة 249].{واصبروا إنَّ اللهَ مع الصابرين}[الأنفال46]

4 ـ عظيم الجزاء والثواب:

{وبَشِّر الصَّابرينَ* الذين إذا أصابتهم مُصيبةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون*أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون}[البقرة 155ـ 157].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“إنا لله..كلنا…كل مافينا..كل كياننا وذاتينا…لله…وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير…التسليم…التسليم المطلق…تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجهاً لوجه بالحقيقة الوحيدة،وبالتصور الصحيح.

هؤلاء هم الصابرون..الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل..وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل:{أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}صلوات من ربهم..يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه…وهو مقام كريم…ورحمة…وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون…وكل أمر من هذه هائل عظيم.”.

قال عتبة بن غزوان في جملة خطبة له:”…ولقد رأيتني سابع سبعةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مالنا طعامٌ إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا.فالتقطتُ بُردةً فشققتها بيني وبين سعد بن مالك(سعد بن أبي وقاص) فاتّزرتُ بنصفها واتّزر سعدٌ بنصفها.فما أصبح اليوم منا أحدٌ إلا أصبح أميراً على مصرٍ من الأمصار.وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً.وإنها لم تكن نُبوّةٌ قطُّ إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها مُلكاً.فَستخبُرُنَ وتُجرّبون الأمراء بعدنا[صحيح مسلم]

{ وما يُلَقَّاها إلّا الذينَ صَبروا وما يُلقَّاها إلا ذُو حَظٍّ عظيمٍ}[فصلت 35]

ويقول تعالى:{إنَّما يُوفَّى الصَّابرونَ أجرَهُمْ بغيرِ حِسابٍ}[الزمر10].

{ولئن صبرتم لهوَ خيرٌ للصابرينَ}[النحل126]

{وإن تصبروا وتتقوا فإنَّ ذلكَ من عزمِ الأمورِ}[آل عمران 186]

{ولَمَن صَبرَ وغَفرَ إنَّ ذلكَ لَمِن عَزمِ الأمورِ}[الشورى 43]

{أولئكَ يُؤتَونَ أجرَهُم مَّرَّتينِ بما صبروا}[القصص54].

{واصبِرْ على ما أصابكَ إنَّ ذلكَ من عزمِ الأمورِ}[لقمان 17]،أي من الأمور التي يعزم عليها ويهتم بها ولا يوفق لها إلا أهل العزائم.

وأعظم الثمرات في الآخرة: الفوز بالجنة والنجاة من النار:{ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلامٌ عليكم بما صبرتم فَنعمَ عُقبى الدَّار}[الرعد22 ـ24]،وقال تعالى:{وجَزاهُم بما صبروا جنَّةً وحريرا}[الإنسان 12]

ومن أعظم الثمرات في الدنيا أن يكونوا أئمة ومنارات{وجَعلنا مِنهُم أئمةً يَهدُونَ بأمرنا لمَّا صَبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}[السجدة 24].وقال تعالى:{وتَمَّت كلماتُ رَبِّك الحُسنى على بني إسرائيلَ بما صَبروا}[الأعراف137]

سأل رجل الشافعي رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله،أيما أفضل للرجل،أن يُمكَّن أو يُبتلى؟فقال الشافعي: لا يمكّن حتى يبتلى،فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،فلما صبروا مكّنهم”[الفوائد لابن القيم]

جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من يَتصبَّر يُصبِّره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع له من الصبر].

5 ـ فالبلاء للمؤمن في الدنيا كفارة عن ذنوبه وخطاياه،يمحو الله بها الخطايا،ويضاعف الحسنات.

والصبر يُحوِّل المصيبة إلى نعمة وخير،يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:[عَجباً لأمر المؤمن ،إنَّ أمره كلَّه خير،وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن،إن أصابتهُ سرَّاء شكر فكانَ خيراً له،وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له][رواه مسلم عن صهيب الرومي رضي الله عنه]

جاء في الصحيحين عن أم عبد الله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسل الله صلى الله عليه وسلم:”[ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عز وجل بها عنه حتى الشوكة يشاكها].

وفي الصحيحين أيضاً عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ما يصيب المسلمَ من َنصَب ولا وصب ،ولاهمّ ولاحزنٍ، ولا أذىً ولاغمّ،حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه].[النصب:التعب،الوصب:المرض].

وروى البخاري ومسلم،عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت:يا رسول الله،إنّك توعك وعكاً شديداً،قال:”أجل،إني أوعك كما يوعك رجلان منكم” قلت:ذلك أنَّ لك أجرين؟قال:”أجل،ذلك كذلك،ما من مسلم يصيبه أذى،شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاته،وحُطّت عنه ذنوبه كما تحطّ الشجرة ورقها”.[الوعك:مغث الحمى،وقيل الحمى].

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه،قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه”.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”مايزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة“[رواه الترمذي وقال:حديث حسن صحيح]

وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون؟فأخبرها أنه”كان عذاباً يبعثه الله تعالى على من يشاء،فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين،فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً،يعلم أنه لايصيبه إلا ما كتب الله له،إلا كان له مثل أجر الشهيد”.[حديث صحيح]

وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”إن الله عز وجل قال:إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة“[يقصد عينيه].

قال ابن بطال(شرح صحيح البخاري):”في هذا الحديث حجة في أن الصبر على البلاء ثوابه الجنة،ونعمة الصبر على العبد،وإن كانت من أجلِّ نعم الله تعالى فعوض الله عليها الجنة أفضل من نعمتها في الدنيا،لنفاد مدة الالتذاذ بالبصر في الدنيا،وبقاء مدة الالتذاذ به في الجنة”.

وروى الشيخان عن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه،قال:قال لي ابن عباس رضي الله عنهما:ألاأريك امرأة من أهل الجنة؟فقلت بلى. قال:هذه المرأة السوداء،أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:إني أصرع،وإني أتكشف،فادع الله تعالى لي.قال:”إن شئت صبرت ولك الجنة،وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك”فقالت:أصبر.وقالت:إني أتكشف،فادع الله أن لا أتكشف،فدعا لها”.

وهذا قليل قليل أمام ما أعده الله للصابرين من جزيل الثواب وحسن المآب.ويكفي الصابرين أن الله بشرهم وفي آية واحدة بكل جوامع الخير في الدنيا والآخرة:{وبَشِّرِ الصَّابرينَ* الذينَ إذا أصَابَتهُمْ مُصيبَةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّا إليهِ راجِعُونَ* أولئِكَ عَليهمْ صَلواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورَحمَةٌ وأولئكَ هُمُ المُهتدُونَ}[البقرة 155 ـ 157].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:

“أولئك ـ أي الصابرون ـ عليهم صلوات من ربهم يرفقهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي يصلي الله سبحانه وملائكته عليه،وهو مقام كريم ورحمة وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون،وكل أمر من هذا هائل عظيم.

إن الله يضع هذا كله في كفة،ويضع في الكفة الأخرى أمراً واحداً صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ،إنه لا يعدهم نصراً،ولا يعدهم تمكيناً ولايعدهم هنا مغانم ولايعدهم هنا شيئاً إلا صلوات الله ورحمته وشهادته جزاءً على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات وجزاءً على الخوف والجوع والشدة،وجزاءً على القتل والشهاة،إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء،أرجح من النصر وأرجح من التمكين ،أرجح من شفاء غيظ الصدور،هذا هو الهدف،وهذه هي الغاية،وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم وإنما هو لدعوة الله التي يحملونها”.

أمام هذا العطاء الواسع قال أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه:”مانزلت بي مصيبة إلا واكتسبت من ورائها ثلاث نعم:النعمة الأولى أن ما ينزل لم ينل من عقيدتي ولم يمس ديني،والثانية:أن ماينزل لم يكن أعظم الأمور ضرراً أو أكثر خطراً،والثالثة:ما أعد الله للصابرين من الأجر والثواب”.

ويقول الإمام علي رضي الله عنه:”أوصيكم بخمسة لو ضربتم إليها آباط الإبل لكنَّ لها أهلاً:لا يرجون أحدكم إلا ربه،ولا يخافنَّ إلا ذنبه،ولا يستحي أحدكم إذا سئل عما لايعلم أن يقول لا أعلم،وإذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه،واعلموا أنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قطع الرأس ذهب الجسد،وكذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان”.

ويقول الإمام علي أيضاً:”للصبر أربع شعب:الشوق،والشفقة،والزهادة،والترقب.فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات،ومن شفق من النار رجع عن الحرمات،ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات،ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات”.

وقال سيد التابعين الحسن البصري رضي الله عنه:”الصبر كنز من كنوز الجنة لا يعطيه الله عز وجل إلا لعبد كريم عنده”.

وفي الحديث الشريف الذي رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وحسنه الألباني:[يود أهل العافية يوم القيامة،حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض].

وماذا قال الله تعالى لعبده وحبيبه وسيد الخلق والمرسلين وماذا وعده إن صبر:{واصبرْ لِحُكمِ رَبِّكَ فإنَّكَ بأعيُنِنَا}[الطور49]،ياله من تعبير،وياله من تصوير،وياله من تقدير،إنها مرتبة لم يبلغها قط إنسان،هذه المرتبة التي يصورها هذا التعبير الفريد في القرآن كله حتى بين التعبيرات المشابهة.

لقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام:{وأنا اخترتُكَ فاستمِعْ لِما يُوحى}[طه13]،وقال له :{وألقيتُ عليكَ مَحبَّةً مِنّي ولِتُصنعَ على عيني}[طه39]وقال:{واصطنعتُكَ لنفسي}[طه 41]وقال لمحمد عليه السلام:{واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}[الطور 49]وهو تعبير فيه اعزاز خاص وأنس خاص يلقي ظلاً فريداً أرقُّ وأشفُّ من كل ظل،ولا يملك التعبير البشري أن يترجم هذا التعبير الخاص فحسبنا أن نشير إلى ظلاله وأن نعيش هذه الظلال.

قال زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين:”إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي منادٍ أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب.قال: فيقوم عُنُق(جماعة)من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون:إلى أين يا بني آدم؟فيقولون:إلى الجنة.فيقولون: قبل الحساب؟قالوا: نعم . قالوا:من أنتم ؟قالوا: نحن الصابرون. قالوا: وما كان صبركم؟قالوا: صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله.قالوا:أنتم كما قلتم،ادخلوا الجنة فنعم أجر العالمين.

من هم المبتلون الصابرون؟:

ولعلّ ما يكفي الصبر تشريفاً وتكريماً والمبتلون شرفاً وتكريماً أن المبتلين الصابرين هم من أنبياء الله وعباده الصالحين المقربين.

يقول تعالى:{ولقد كُذِّبتْ رسلٌ من قبلِك فصبروا على ما كُذِّبوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرُنا ولا مُبَدِّلَ لكلماتِ الله ولقد جاءكَ من نبأ المرسلين}[الأنعام34]

نعم لقد صبر الأنبياء جميعاً،وتعرضوا للابتلاء والامتحان تلو الامتحان،فسيدنا إبراهيم عليه السلام أُبتلي بالنار،ووضع في النار ليحرق،وأُبتلي بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام،وأُبتلي بالهجرة من وطنه،وأُبتلي بتعرض زوجته للأذى من نمرود مصر ولكن الله أنقذه من جميع الفتن والمحن .والأنبياء جميعهم وبدون استثناء ابتلوا وأوذوا ونالهم الأذى الكبير والشيء الكثير وكان سلاحهم الصبر،وكان لهم مع الصبر النصر وتأييد الله{ولَنصبِرَنَّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكَّلِ المُتوكِّلونَ}[ابراهيم 12]

جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من يُرد الله به خيراً يُصب منه]،وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:قلت: يا رسول الله ،أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟قال صلى الله عليه وسلم: “الأنبياءُ ثم الصالحون، فالأمثل من الناس،يُبتلى الرجل على حَسب دينه،فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه،وإن كان في دينه رقة خُفف عنه،وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الارض وليس عليه خطيئة][قال الترمذي حديث حسن صحيح].

أمثلة حيّة:

فإذا كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق والمرسلين وأحبّ خلق الله إلى الله قد تعرض من البلاء مالم يتعرض له إلا أهل العزم من الرسل،ومع ذلك كان عبداً صابراً شكوراً،يواجه المصاعب والعقبات بإيمان عظيم وصدق يقين،ولقد ابتلي في مراحل عمره وفي مراحل دعوته،واستمرت رحلة الابتلاء حتى في اللحظات الأخيرة وهو يواجه سكرات الموت،لقد نشأ يتيماً،حيث مات أبوه وهو مازال في رحم أمه،وماتت أمه وهو طفل صغير،فكتب عليه اليتم:{ألم يجدك يتيماً فآوى}[الضحى6]،وعند نزول الوحي عليه في غار حراء،ومن ثم في كل مراحل الدعوة النبوية حيث لاقى من الأذى والتشهير والسخرية،وكل صنوف الأذى والابتلاء،من الأهل والأقارب ومن القريب والبعيد،وقاطعه قومه مقاطعةً اجتماعية واقتصادية،ومكروا له أشد المكر،وخططوا لقتله،ولاحقوا أتباعه وعرضوهم للأذى والتعذيب والقتل،ومن ذلك أيضاً أن ماتت عنه زوجته وحضنه الوفي الأمين السيدة خديجة رضي الله عنه في السنة العاشرة للبعثة،ومن ثم عمه أبو طالب ،وتعرض للأذى من سفهاء الطائف،ولم يثنه هذا عن الدعوة بل توجه إلى الله بقلب مؤمن صابر محتسب،ومقرون بالرجاء،صبر على الإعراض،وصبرٌ على الإيذاء، يناجيه يطلب عونه،ويخشى أن يكون قد قصّر في دعوته ويناجيه بدعاء من أجمل الأدعية:”اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس،يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي،إلى من تكلني؟إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري،إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات،وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل بي غضبك أو يحلَّ عليّ سخطك،لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك”.

وفي غزوة أحد وبسبب عدم التزام الرماة بتعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الألم والقرح وفقدان العديد من الأحبة وخاصة عم الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء حمزة رضي اله عنه،وقد شُجَّ وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم وسال الدم منه،ومع ذلك تلقى القرح والأم والحزن بقلب صبور ونفس راضية محتسبة،ولم يزد على أن قال :اللهم اغفر لقومي فإنهم لايعلمون”.

وفي سياق الدعوة النبوية يتهم حبيب الله في عرضه وفي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في ما يسمى حادثة الإفك حتى برأها الله من فوق سبع سموات،وكل ذلك لم يثنه عن دعوته ولم يبعده عن رسالته،وتستمر الأحداث والابتلاءات والمحن وحتى وهو على فراش الموت حيث أرسل الله إليه الملائكة الكرام الموكلين بقبض الأرواح وأخذوا روحه الزكية الطاهرة المباركة ولينقلوها من دنيا الفناء إلى دنيا البقاء،فاشتد مع ذلك في النزع كربه وظهر أنينه،وتغيّر لونه ،وعرق جبينه،واضطربت في الانقباض والانبساط شماله ويمينه،حتى بكى له من حضره وانتحب لشدة حاله من شهد منظره،وتقول له السيدة فاطمة أم الحسنين وسيدة نساء العالمين:”واكَرب أبتاه” فيقول لها بنفس صابرة مؤمنة:”ليس على أبيك كرب بعد اليوم.ولم يكن ليزيد عند اشتداد الكرب عليه وازدياد الألم عن أن يقول:”اللهم هوِّن عليَّ سكرات الموت“.فلما توفاه الله وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها قالت السيدة فاطمة:”يا أبتاه،أجاب رباً دعاه،يا أبتاه جنة الفردوس مأواه،يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.

ومن أجمل الأمثلة على الصبر الجميل موقف أبي الأنبياء ابراهيم عليه السلام عندما أمر بذبح ابنه وكيف استجاب لأمر ربه محتسباً صابراً مؤمناً.ولنتابع قصته كما ذكرها الشهيد سيد قطب في الظلال من خلال الآيات القرآنية.

يقول تعالى:{فَلَمّا بلغَ معهُ السَّعيَ قالَ يا بُنيَّ إنّي أرى في المنامِ أنّي أذبحُكَ فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعلْ ماتؤمرْ ستجدني إن شاءَ الله من الصّابرينَ}[الصافات 102].

يقول سيد قطب:”يالله! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم…هذا إبراهيم الشيخ المقطوع من الأهل والقرابة.المهاجر من الأرض والوطن.هاهوذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام طالما تطلع إليه.فلما جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنّه حليم{فبشرناهُ بغلام حليم}[الصافات 101]”..وهاهو ذا مايكاد يأنس به،وصباه يتفتح،ويبلغ معه السعي،ويرافقه في الحياة….هاهوذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد،حتى يرى في منامه أنه يذبحه،ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية فماذا؟إنه لايتردد،ولا يخالجه إلا شعور الطاعة،ولا يخطر له إلا خاطر التسليم….نعم إنها إشارة.مجرد إشارة.وليست وحياً صريحاً،ولا أمراً مباشراً.ولكنها إشارة من ربه…وهذا يكفي..هذا يكفي ليلبي ويستجيب.دون أن يعترض.ودون أن يسأل ربه.لماذا ياربي أذبح ابني الوحيد؟!

ولكنه لا يلبي في انزعاج،ولا يستسلم في جزع،ولا يطيع في اضطراب…كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء.يبدو ذلك في كلماته لإبنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب:{قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى}[الصافات 102].

فهي كلمات المالك لأعصابه،المطمئن للأمر الذي يواجهه،الواثق بأنه يؤدي واجبه.وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن،الذي لا يهوله الأمر فيؤديه،في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي،ويستريح من ثقله على أعصابه.

والأمر شاق ـ مافي ذلك شك ـ فهو لا يطلب إليه أن يرسل بإبنه الوحيد إلى معركة.ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته.إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده.يتولى ماذا؟يتولى ذبحه…وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي،ويعرض على ابنه هذا العرض،ويطلب إليه أن يتروى في أمره ،وأن يرى فيه رأيه!إنه لا يأخذ ابنه على غرّة لينفذ إشارة ربه.وينتهي.إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر.فالأمر في حسه هكذا.ربه يريد.فليكن ما يريد.على العين والرأس.وابنه ينبغي أن يعرف.وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما،لا قهراً واضطراراً.لينال هو الآخر أجر الطاعة،وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم.

إنه يحب لإبنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها،وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى.

فماذا يكون أمر الغلام،الذي يعرض عليه الذبح،تصديقاً لرؤيا رأها أبوه؟

إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه:”{قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}[الصافات 102]”.

إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب.ولكن في رضى كذلك وفي يقين.

يا أبت…في مودة وقربى.فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده.بل لا يفقده أدبه ومودته.

“افعل ما تؤمر“..فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه.يحس أن الرؤيا إشارة.وأن الإشارة أمر.وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجلة ولا تمحل ولا ارتياب.

ثم هو الأدب مع الله،ومعرفة حدود قدرته،وطاقته في الاحتمال،والإستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ومساعدته على الطاعة.

ستجدني إن شاء الله من الصابرين

ولم يأخذها بطولة…ولم يأخذها شجاعة…ولم يأخذها إندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة…ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً.إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه،وأصبره على ما يُراد به”ستجدني إن شاء الله من الصابرين”

ويخطوالمشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام…يخطو إلى التنفيذ :{فلما أسلما وتلَّهُ للجبين}[الصافات 103]

ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة،وعظمة الإيمان.وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارق عليه بنو الإنسان.إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعداداً.وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً.وقد وصل الأمر أن يكون عياناً.لقد أسلما.فهذا هو الإسلام.هذا هو الإسلام في حقيقته.ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم وتنفيذ…وكلاهما لا يجد إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.

إنها ليست الشجاعة والجرأة.وليس الاندفاع والحماسة.لقد يندفع المجاهد في الميدان،يَقتل ويُقتل..ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود.ولكن هذا كله شىء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شىء آخر.ليس هنا دم فائر،ولا حماسة دافقة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص!إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد،العارف بما يفعل،المطمئن لما يكون.لا بل هنا الرضى الهادىء المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل.

وهنا كان الابتلاء قد تمّ.والامتحان قد وقع.ونتائجه قد ظهرت.وغاياته قد تحققت.ولم يعد إلا الألم البدني.وإلا الدم المسفوح.والجسد الذبيح.والله لايريد أن يعذب عباده بالابتلاء.ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شىء.ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء يكافئهم على ما ادوا،وقد حققوا التكليف،وقد جاوزوا الامتحان بنجاح”.

والكريم ابن الكريم ابن الكريم سيدنا يوسف بن يعقوب بن اسحق ابن إبراهيم عليهم صلوات الله ورضوانه،قضى مراحل حياته وهو يخرج من ضائقة إلى أخرى ومن امتحان وابتلاء إلى آخر.فقد أمه وهو طفل،وتآمر عليه أخوته فاختطفوه من حضن أبيه وألقوا به في البئر ليلقى في غيابتها مصيره المجهول،واستنقذته السيارة ليتملكّوه عبداً ثم يبيعوه في سوق الرقيق بثمن بخس دراهم معدودة،وفي قصر العزيز تعرض للدسائس الماكرة فاتهم وهو العفيف بأنه يبغي السوء والفحشاء،ورغم ظهور براءته ألقي في السجن مع الأشقياء،لا أياماً أو شهوراً بل بضع سنين،ولو أن شخصاً آخر نظر في كل هذا الذي تعرض له وما في ذلك من أحزان وآلام لضاق بالأرض وتنكّر للسماء،ولكن يوسف الصديق بقي متألق اليقين،عالي الجبين،وبقي من وراء جدران السجن يُذِّكر بالله ويدعو إليه:{يا صاحبي السجن اأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ماتعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله  أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}[يوسف 39 ـ 40].

ونبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام،كان له المال الكثير،وكان له الأولاد والأهل،فسلب من ذلك جميعه،وابتلي في جسده بأنواع البلاء،وبقي صابراً محتسباً ذاكراً،وطال مرضه حتى عافه الجليس وأوحش منه الأنيس،وانقطع عنه الناس،ولم يبق له إلا زوجة صالحة(يقال أنها من أحفاد يوسف عليه السلام) تحنو عليه،وترعى حقه،وتعرف قديم إحسانه،وهو صابر محتسب ذاكر حامد،إلى أن فرّج الله عنه بعد دعائه وتضرعه ما به من ضر،وآتاه الصحة،ورد له ماكان قد أخذ منه،وآتاه أهله ومثلهم معهم.

يذكر القرآن الكريم قصته في الآيات التالية:{وأيُّوبَ إذ نادى رَبَّهُ أنّي مَسَّنيَ الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الرَّاحمينَ*فاستجبنا لهُ فكشفنا ما بهِ من ضُرٍّ وآتيناهُ أهلهُ ومثلَهُم معهم رحمةً من عندنا وذكرى للعابدينَ}[الأنبياء83 ـ 84].وقد أثنى الله عليه بسبب صبره فقال تعالى:{إنَّا وجدناهُ صابراً نِعْمَ العبدُ إنّهُ أوّاب}[ص44].

يقول سيد قطب في الظلال في الآية 84 من سورة الأنبياء:

“وقصة ابتلاء أيوب من أروع قصص الابتلاء.وأيوب هنا في دعائه لا يزيد على وصف حاله”أني مسني الضر” ووصف ربه بصفته”وأنت أرحم الراحمين” ثم لا يدعو بتغيير حاله،صبراً على بلائه ولا يقترح شيئاً على ربه ،تأدباً معه وتوقيراً.

فهو نموذج للعبد الصابر لا يضيق صدره بالبلاء،ولا يتململ من الضر،الذي تضرب به الأمثال في جميع الأعصار.بل إنه ليتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه،فيدع الأمر كله إليه،اطمئناناً إلى علمه بالحال وغناه عن السؤال.

وفي اللحظة التي توجه فيها أيوب إلى ربه بهذه الثقة وبذلك الأدب كانت الاستجابة،وكانت الرحمة،وكانت نهاية الابتلاء”فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر“رفع عنه الضر في بدنه فإذا هو معافى صحيح،ورفع عنه الضر في أهله فعوضه عمن فقد منهم ورزقه مثلهم وقيل هم أبناؤه فوهب الله له مثلهم أو أنه وهب له أبناءً وأحفادا.

رحمة من عندنا“فكل نعمة فهي رحمة من عند الله ومنّة.

وذكرى للعابدين تذكرهم بالله وبلائه،ورحمته في البلاء وبعد البلاء .والإشارة”للعابدين” بمناسبة البلاء إشارة لها مغزاها.فالعابدون معرضون للابتلاء والبلاء،وتلك تكاليف العبادة وتكاليف العقيدة وتكاليف الإيمان.والأمر جد لا لعب،والعقيدة أمانة لا تسلم إلا للأمناء القادرين عليها،المستعدين لتكاليفها وليست كلمة تقولها الشفاه،ولادعوى يدعيها من يشاء، ولا بد من الصبر ليجتاز العابدون البلاء”.انتهى كلام سيد رحمه الله.

إن الناس بالنسبة للنعم وللنقم أصناف ثلاثة:

الأول: صنف كفر بالنعمة عند حلولها ولم يرها فضلاً من المنعم عليه،أو سخط عند حلول النقمة،لعدم إيمانه بمن قدّرها عليه،فلم ينفعه الرخاء في شكر الله،ولم تدفعه الشدة في الرجوع إلى الله:{وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}[الأعراف 168]،{ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}[الأنبياء 25].

وقد وصف الله تعالى خلق هذا الإنسان المنحرف حيال النعمة والنقمة إذا سيقت إليه فقال تعالى:{ولئن أذقنا ه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة}[فصلت50].

والثاني:صنف يؤمن حال النعمة،ويكفر حال النقمة،يقول تعالى في هؤلاء:{ومنهم من يعبد الله على حرف}[الحج22]،وقال فيه أيضاً:{فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن}[الفجر 15 ـ 16].

والثالث:صنف يشكر في النعماء ويصبر في الضراء.

وبعد،فهذا بعض مما يقال عن الصبر حكمة وآداباً وفضلاً وأجراً،وهو وإن كان شاقاً فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل فمنهما تركب الأدوية لأمراض القلوب كلها،فيحتاج كل مرض إلى علم وعمل يليق به.

روي أن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه كان إذا قرأ الآية الكريمة{ولَنَبلُونَّكُم حتَّى نعلمَ المُجاهدينَ منكُم والصَّابرينَ ونَبلُوَ أخباركُم} [محمد31]بكى،وقال اللهم لا تبلنا،فإنك إن بلوتنا فضحتنا،وهتكت أستارنا”.

فنحن لا نطلب من الله البلاء،ونسأله العفو والعافية،ونتطلع إلى رحمته وفضله،ولكن إذا قُدِّر علينا البلاء فنسأل الله عز وجل الصبر عليه بقلب لم تعلق به ريبة،وعقل لا تطيش به كربة،بموفور الثقة وبقوة الإيمان،لا نرتاع لغيمة تظهر في الأفق ولو تبعتها أخرىوأخرى،بل نبقى موقنين بأن بوادر الصفو لابد آتيةنوأن الحكمة ارتقابها في سكون يقين،وإيمان سليم.

إنَّ الأمورَ إذا انسدَّتْ مَسَالِكها          فالصَّبرُ يَفْتُقُ منها كُلَّ ما ارتَتجا

لا تيئسنَّ وإن طالتْ مُطالبةٌ             إذا استعنتَ بصبرٍ أن ترى فَرَجا

أَخلِقْ بذي الصَّبرِ أن يحظى بحاجتهِ    ومُدمنِ القرعِ للأبوابِ أن يَلِجا

(محمد بن بشير)

ادفع بصبركَ حادثَ الأيام             وترجَّ لُطفَ الواحدِ العلّامِ

لا تيأسنَّ وإن تضايقَ كربُها            ورماكَ رَيبُ صروفها بسهامِ

فله تعالى بين ذلك فُرجةٌ              تخفى على الأبصار والأوهامِ

كم من نجيٍّ بين أطرافِ القنا           وفريسةٍ سلمت من الضِّرغامِ

وقال آخر:

ولكلِّ حالٍ مُعقب ولربما               أجلى لك المكروه عما يُحمدُ

لا يؤيسينك من تفرج كربة            خطب رماك به الزمان الأنكدُ

واصبر فإن الصبر يُعقِبُ راحةً        في اليوم تأتي أو يجيء بها الغدُ

كم من عليلٍ قد تخطاه الردى           فنجا ومات طبيبه والعوّدُ

والله بالغ أمره في خلقه                وإليه مصدرنا غداً والموردُ   

{والعصر* إنَّ الإنسانَ لفي خُسرٍ* إلا الذينَ آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ وتَواصوا بالحقِّ وتَواصوا بالصَّبر}[العصر 1 ـ 3].

 

 

الإسلام والبيئة

بسم الله الرحمن الرحيم

الإسلام والبيئة

يقول العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله(موقع القرضاوي):

” قد يستغرب بعض الناس حديثنا عن رعاية البيئة في الشريعة الإسلامية،ظناً منهم أن الإسلام إنما يُعنى بالعبادات الشعائرية فقط،وأن فقه الإسلام يُعنى بالحيض والنفاس والاستنجاء والتيمم ولا علاقة للإسلام بالكون،ولا بالإنسان ولا بالحياة،ولا بالبيئة . هذه نظرة قاصرة وخاطئة في فهم رسالة الإسلام والحقيقة أن رسالة الإسلام رسالة شاملة تشمل الدين والدنيا،وتشمل العقيدة والشريعة،والدعوة والدولة،والفرد والمجتمع، وتشمل الحياة الإنسانية كلها،بل الكون كله “.
ويقول الفيلسوف الفرنسي المسلم العظيم رجاء جارودي رحمه الله:
” إن القرآن يعلمنا أن نرى في كل حادث وفي كل شئ آية من آيات الله ورمزاً لوجودٍ أعلى يُسيّرنا،ويُسّير الطبيعة والمجتمع،وهدف الدين الرئيسي هو التناسق والوحدة الصادرة عن الله تعالى والعائدة إليه “.
تعريف البيئة :
هي كل ما يحيط بالإنسان من مظاهر ومؤثرات وظروف وأحوال،وتشمل مكونات البيئة من التربة والهواء والماء والنباتات والحيوانات .
وجاء في دائرة المعارف الإسلامية :
“البيئة والباءة في اللغة أسماء مختلفة بمعنى المنزل الذي يأوي إليه الإنسان أو الحيوان ويقيم فيه . وهي مشتقة من الفعل بوَّأ _ بتشديد الواو _ فيقال أباءه منزلاً وبوأه إياه بمعنى هيأه له وأنزله ومكَّن له فيه . قال تعالى :{ والذينَ أمنوا وعملُوا الصَّالحاتِ لَنُبوِّئَنَّهُم من الجنَّةِ غُرَفاً تجري من تحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها نِعمَ أجرُ العاملين }[ العنكبوت 58].
ولقد جاءت عدة أيات قرآنية في تسع سور في موضوع الفعل الثلاثي “بوأ” وهي :{ وبَوَّأكُم في الأرضِ تتَّخذونَ من سُهُولِهَا قُصُوراً} [الأعراف 74 ]،وبوأكم هنا : أسكنكم .{ولقد بَوَّأنَا بَني إسرائيلَ مُبَوَّأ صِدق} [ يونس 93].
{وإذ بَوَّأنَا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ أن لا تُشرِك بي شيئاً } [الحج 26] (أي: أرشده إليه وأذن له في بنائه كما جاء في تفسير ابن كثير) .
{وإذ غدوتَ من أهلكَ تُبَوّئُ المُؤمنينَ مَقاعدَ للقتال والله سميعٌ عليم] [آل عمران 121].
{والذينَ هَاجرُوا في الله من بعدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوَّئَنَّهُم في الدُّنيا حسنة} [النحل 42].{ والذينَ تَبَوَّءُوأ الدارَ والإيمان} } [الحشر 9].
{وأورثنا الارضَ نَتَبوَّأُ من الجنّة ِحيثُ نشاءُ فَنِعمَ أجرُ العاملين} [الزمر74] . {وكذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرضِ يَتَبوَّأُ مِنها حيثُ يشاء}[ يوسف 56].
{وأوحينا إلى مُوسى وأخيهِ أن تَبَوَّأ لِقَومِكُما بِمصرَ بيوتاً}[ يونس 87].
ولعل أبو قراط صاحب القسم الطبي المشهور والمعروف باسم “أبو الطب” هو أول من بحث في العلاقه بين البيئة والإنسان في رسالته الشهيرة التي أطلق عليها اسم ” الأهوية والمياه والأماكن ” وكانت أول رسالة في علم المناخ تصف أثر طبيعة الأرض والمناخ والصحة،ومن بعده كتب أرسطو وبطليموس وجالينوس في نفس الموضوع .
وكان العالم المسعودي من أوائل الجغرافيين العرب الذين كتبوا في العلاقة بين البيئة والإنسان في كتابه المشهور”مروج الذهب  ويُعتبر ابن خلدون أكثر العلماء العرب تفصيلاً في شرح العلاقة بين الإنسان والبيئة .
نظرة الإسلام إلى البيئة
1 ـ نظرة المحبة والتناسق والإنسجام :
إن نظرة الإسلام إلى البيئة وتفاعل المسلم معها هي نظرة محبة وتناسق وانسجام فالخالق واحد،والمخلوق سواءً كان إنساناً أوحيواناً أو نباتاً أو جماداً يتبع نفس الخالق،والكل يُسِّبح بحمد الله،ويتبع النواميس والقوانين التي جعلها الله ليكون هناك انسجام وتناسق ومحبة فيما بينهم جميعاً .
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في مقدمة الظلال:
” على أن المرحلة التي يقطعها (أي الإنسان) على ظهر هذا الكوكب إنما هو رحلة في كون حي مأنوس،وعالم صديق ودود، كَونٌ ذي روح ،تتلقى وتستجيب وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع { ولله يَسجدُ من في السّمواتِ والأرضِ طَوعاً وكَرهاً وظِلالُهُم بالغُدُوِّ والأصال }[الرعد15]، {تُسَّبحُ له السّموات السّبع والأرض ومن فيهنَّ][الإسراء 44] {وإن من شئٍ إلاّ يُسَّبحُ بحمده ولكن لا تفقهونَ تسبيحهم}[الإسراء 44] .
ويتابع رحمه الله:
“أيّ راحة وأيّ سَعةٍ وأيّ أُنسٍ،وأيّ ثقةٍ يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الصحيح “.

ويقول رحمه الله(الظلال الجزء الأول ص 207 ـ 208):

“كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب،وبين الخالق والكون،وبين الكون والإنسان…فالله خلق هذا الكون بالحق،وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة.وهذا الإنسان مخلوق قصداً،وغير متروك سدى،ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده،ومسخر له ما في الأرض جميعاً.وهو كريم على الله،وهو خليفته في أرضه.والله معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس،تتجاوب روحه مع روحه،حين يتجه كلاهما إلى الله ربه.وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به.وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير،الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان!

ويتابع رحمه الله:

“والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة،وهي توحي إليه أن له أجراً حين يرويها من عطش،وحين يعينها على النماء،وحين يزيل من طريقها العقبات…هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة.عقيدة تسكب في روحه السلام،وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود،ويشيع من حوله الأمن والرفق،والحب والسلام”.

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى في قوله تعالى في سورة ص:{إنا سخرنا الجبال معه يُسبحن بالعشيّ والإشراق}[ص18]:

“ولقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ…الجبال الجامدة تُسبّح مع داود بالعشي والإشراق،حينما يخلو إلى ربه،يرتل ترانيمه في تمجيد هوذكره،والطير تتجمع على نغماته لتسمع له وترجع معه أناشيده…لقد يقف الناس مدهوشين للنبأ،إذ يخالف مألوفهم،ويخالف ما اعتادوه أن يحسوه من العزلة بين جنس الإنسان،وجنس الطير،وجنس الجبالّ!

ولكن فيم الدهش؟وفيم العجب؟إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة وراء تميز الأجناس والأشكال والصفات والسمات…حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارىء الوجود كله:أحيائه وأشيائه  جميعاً.وحين تصل صلة الإنسان بربه درجات الخلوص والإشراق والصفاء،فإن تلك الحواجز تنزاح،وتنساح الحقيقة المجردة لكل منهم.فتتصل من وراء حواجز الجنس والشكل والصفة والسمة التي تميزهم وتعزلهم في مألوف الحياة”.
ويقول الدكتور العلامة الشيخ يوسف القرضاوي(كتاب الإيمان والحياة ص120):
“والمؤمن يعيش موصولاً بالوجود كلّه،ويحيا في أنس به،وشعور عميق بالتناسق معه،والارتباط به،فليس هذا الكون عدواً له،ولا غريباً عنه،إنه مجال تفكره واعتباره،ومسرح نظره وتأملاته،ومظهر نعم الله وآثار رحمته.هذا الكون الكبير كلّه يخضع لنواميس الله كما يخضع المؤمن،ويسبح بحمدالله كما يسبح المؤمن.والمؤمن ينظر إليه نظرته إلى دليل يهديه إلى ربه، وإلى صديق يؤنسه في وحشته.وبهذه النظرة الودود الرحبة للوجود،تتسع نفس المؤمن، وتتسع حياته وتتسع دائرة الوجود الذي يعيش فيه”.
ويقول الشهيد سيد قطب (الظلال ج1 ص25 ):
“وأما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها موقف التعرف والصداقة،لا موقف التخوف والعداء، ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعية صادرتان عن إرادة الله ومشيئته، محكومتان بإرادة الله ومشيئته، متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه. إنّ عقيدة المسلم تُوحي إليه أنّ الله ربه قد خلق هذه القوى كلّها لتكون له صديقاً مساعداً متعاوناً، وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها ويتعرف إليها ويتعاون وإياها،ويتجه معها إلى الله ربّه وربّها، وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحياناً فإنما تُؤذيه لأنه لم يتدبّرها ولم يتعرف إليها ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها .
ولقد درج الغربيون (ورثة الجاهلية الرومانية ) على التعبيرعن استخدام قوى الطبيعة بقولهم قهر الطبيعة ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة بالله،وبروح الكون المستجيب لله، فأما المسلم الموصول القلب بربّه الرحمن الرحيم، الموصولة الروح بروح هذا الوجود المُسّبحة لله ربِّ العالمين فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غيرعلاقة القهروالجفوة، إنه يعتقد أن الله هو مُبدع هذه القوى جميعاً،خلقها كلها وفق ناموس واحد، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس،وأنه سخّرها للإنسان ابتداء،ويسّر له كشف أسرارها،ومعرفة قوانينها، وأن على الإنسان أن يشكر الله،فإلهه هو الذي يُسخّرها له، وليس هو الذي يقهرها {وسخّر لكم مافي الأرض جميعاً} وإذن فإن هذه الأوهام لن تملأ حِسّه تجاه قوى الطبيعة،ولن تقوم بينه وبينها المخاوف،إنه يُؤمن بالله وحده،ويعبد الله وحده،ويستعين بالله وحده،وهذه القوى من خَلقِ ربّه وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها، فتبذل له معونتها،وتكشف له عن أسرارها فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود”.
ويقول الدكتور عماد الدين خليل (مجلة العربي الكويتية العدد 238إيلول 1978):
“يُحدّثنا القرآن الكريم في عدد من الآيات كيف أنه ما من شئ في الطبيعة والكون إلا ويُسّبح بحمد الله،وأن النجم والشجر كظاهرتين إحداهما كونية والأخرى طبيعية يسجدان لله { والنَّجمُ والشَّجرُ يسجُدان }الرحمن6 ]،وأن كلّ المكونات التي تقوم عليها بُنية الطبيعة تدأب ليل نهارتقديساً لله وتعظيماً ابتداءً من الذرات الخفية التي تُسّبح في عوالم لا تراها العيون،وحتى السُدم الهائلة وهي تتحرك في أفلاكها لا تخطئ ولا تبتعد عن إرادة الله وعلمه “.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله ( كتاب مقومات التصور الإسلامي) بعد أن يذكر قوله تعالى :{ الذي خَلقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما ترى في خَلقِ الرَّحمنِ من تفاوتٍ فارجعِ البَصَرَ هل ترى من فطور* ثُمَّ ارجعِ البَصَرَ كَرَّتينِ ينقلب إليكَ البَصَرُ خاسئاً وهو حسير* ولقد زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنيا بِمصابيحَ وجعلنَاها رُجُوماً للشياطين وأعتدنا لَهُم عذاب السَّعير[ الملك 3ـ 5].
يقول رحمه الله :
” يوجه نظر الإنسان إلى مافي بناء الكون كله من توافق وتناسق وكمال وجمال وزينة تبلغ ذلك الحد الباهر،الذي يرجع البصر منه حسيراً،لا يجد نقصاً ولا يجد ثغرة،ولايملك التطلع إلى شئ وراءه،بل لايملك استيعابه،وهوتعبيردقيق عن حالة واقعة، فالجمال الكوني حين يتطلع الإنسان إلى السماء،يبهر النظرالإنساني بحيث لايشبع منه،وبحيث لايستوعبه حسّه كذلك،إنها حالة من العجز عن استيعاب كل هذا الجمال الفائض الباهر” .
ويتابع :”إنّه كونٌ صديق للحياة والأحياء،مأنوس للإنسان بوجه خاص،إنه ليس عدواً للحياة كما يقول بعض العلماء الطبيعيين … كلا إنّه كَونٌ صديق مأنوس،أعدّه خالقه لإستقبال الحياة وحضانتها وكفالتها،وسخره لهذا كله،وأمره فأطاع،والنصوص القرآنية التي تُصوّرهذه الحقيقة كثيرة ومتنوعة:
{قُلْ أئنَّكُم لَتكفُرُونَ بالذي خَلقَ الأرضَ في يومين وتَجعلونَ لهُ أنداداً ذَلكَ رَبُّ العالمين * وجعلَ فيها رَواسيَ مِن فَوقِها وبَاركَ فيها وقَدّرَ فيها أقواتَها في أربعةِ أيَّامٍ سَواءً للسائلين * ثُمَّ استوى إلى السَّماءِ وهيَ دُخانٌ فقالَ لها وللأرض ائتِيا طَوعاً أو كَرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت9 ـ11] .
فأقوات الأرض مُقدّرة فيها منذ خلقها،وفيها الكفاية،وهي أقوات مدّخرة في تربتها الغنية العجيبة التي ننسى لطول الألفة مدى ما فيها من عجب .. إن هذه التربة تنبت با ستمرار .. وعلى مدار العام ..وما إن تبذر فيها البذور،أو تغرس فيها الأغراس،وينالها الماء حتى تنبت وتعطي . ولا تكف عن الإنبات والعطاء ! وحين يتامل الإنسان قطعة صغيرة من الارض،فلا يجد إلا كمية من التراب،ثم يجد هذا التراب ما ينى ينبت،كلما طلب منه الإنبات .. إنها عجيبة تذهب الألفة بجدتها وطرافتها . فأي شئ من صنع غير الله يمكن ان يعطي هذا العطاء،ولا يكف عن العطاء ؟ {وترى الأرضَ هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماءَ اهتزَّتْ ورَبَتْ وأنبَتتْ من كُلِّ زَوجٍ بهيج * ذَلكَ بأنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وأنَّهُ يُحي المَوتى وأنَّهُ على كُلِّ شئٍ قدير[ الحج 5ـ 6].
ويتابع :” وليس الكون عدواً لهذه الحياة التي تكفلها الأرض بإذن الله،وهو لا يطارد هذه الحياة . إنما يمدها (بتسخير الله له) بكل مايمد في عمرها ويقويها .. إنّ الشمس تمدُّ هذه الحياة بالنوروالحرارة، بالقدرالمطلوب بالضبط بلا زيادة ولا نقصان . ودورة الأرض حول نفسها وحول الشمس ينشأ عنها الليل والنهار، وتنشأ عنها الفصول . وكل منها موافق للحياة . ولو كان أحدها سرمدا لهلكت الحياة ! كما أن ميلها على محورها بهذا القدر تنشأ عنه المناطق المختلفة الحرارة لتصلح لإنبات جميع أنواع النبات ولحياة جميع أنواع الأحياء .. والقمر كذلك له دوره .. يقول تعالى :{ ألم نجعلِ الأرضَ مِهادا *والجِبالَ أوتادا *وخلقناكُم أزواجا *وجعلنا نَومَكُم سُباتا *وجعلنا اللّيلَ لباسا *وجَعلنا النَّهارَ معاشا * وبَنينا فوقَكُم سَبعاً شِدادا *وجَعلنا سِراجاً وهَّاجاً *وأنزلنا من المُعصراتِ ماءً ثَجَّاجاً* لِنُخرِجَ بهِ حَبَّاً ونباتا *وجنَّاتٍ ألفافا[ النبأ 6ـ 16].
{ألم تَروا كَيفَ خَلقَ اللهُ سَبعَ سمواتٍ طِباقا* وجعلَ القَمرَ فيهنَّ نُوراً وجعلَ الشَّمسَ سِراجاً * واللهُ أنبَتَكُم منَ الأرضِ نباتاً * ثُمَّ يُعيدُكُم فيها ويُخرِجُكُم إخراجاً* واللهُ جعلَ لَكُمُ الأرضَ بساطاً * لِتَسلكُوا مِنها سُبُلاً فِجاجا[نوح 15 ـ 20].
{اللهُ الذي سَخَّرَ لَكُمُ البَحرَ لِتجريَ الفُلكُ فيهِ بأمرهِ ولِتبتغُوا من فضلهِ ولعلَّكُم تشكرون * وسَخَّرَ لكُم ما في السّمواتِ وما في الأرضِ جميعاً منهُ إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكرون[ الجاثية 12ـ 13].
{اللهُ الذي خَلقَ السَّمواتِ والأرضَ وأنزلَ من السَّماءِ ماءً فأخرجَ بهِ من الثَّمراتِ رزقاً لكُم وسَخَّرَ لكُمُ الفُلكَ لتجريَ في البحرِ بأمره وسَخَّرَ لكُمُ الأنهار * وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمسَ والقَمرَ دائبينِ وسَخَّرَ لكُمُ اللّيلَ والنّهار * وآتاكُم من كُلِّ ما سألتموهُ وإن تَعُدُّوا نِعمةَ الله لا تُحصُوها إنَّ الإنسانَ لظلومٌ كفّار}[ابراهيم 32 ـ 34] .
ويتابع رحمه الله :
” إنه من شأن كل هذه الحقائق أن توحي الى قلب المؤمن بالإطمئنان الى هذا الكون الذي يعيش فيه،وبالسلام معه ومع الأحياء،فلا يجيش فيه القلق لشئ من الظواهر الكونية،كما كانت الوثنية توحي الى أهلها في الجاهليات الأولى، ولا يجيش في نفسه الصراع مع الكون كما اندس في حسّ ورثة هذه الوثنيات،بحيث يعد كل كشف لقانون من قوانين الكون،وكل تسخير لطاقة من طاقاته المذخورة “انتصارا على الطبيعة ” كما يعبر ورثة الوثنية الإغريقية والرومانية في أوروبا وأمريكا ! فيلتقط المسلمون المهزومون هذا التعبير الذي تكمن وراءه تلك الرواسب الوثنية،ويصبح اصطلاحا عندهم،كما هو عند ورثة تلك الوثنيات،التي كانت أساطيرها تصورالبشر في صراع دائم مع الآلهة ! وتصور الآلهة في صراع دائم بعضها مع بعض،وكلها مع البشر ! وترمز لهذه الآلهة بأجرام كونية أو بظواهر كونية،أو تجعل كل إله مُوكلا بنجم أو كوكب أو ظاهرة من الظواهر الكونية الكثيرة !إن الشعور بالسلام بين الكون وظواهره، وبين الحياة والأحياء مسألة ذات قبمة شعورية كبيرة، وذات أثر في حياة الإنسان الواقعية كذلك ..إن الإنسان يستطيع ـ مع هذا الشعور ـ أن يمضي في طريقه مطمئنا ، يحاول كشف سنن هذا الكون بروح من يتعرف إلى هذا الكون، لا من يتصارع معه ! وكلما كشف سنة من سننه جعلها للخير واتجه بها إليه، لأن كشفها لم يجئ نتيجة معركة إنما جاء نتيجة صداقة ! ولأنها من صنع الله الذي يدعوه الى الخير والبر، وينهاه عن الشر والفُجر ..
ويتابع :” إن السلام الروحي ضروري للإنسان . وأولى مراحل السلام الروحي وأكبرها، هي السلام مع الكون الذي يعيش فيه ،والتعامل معه ومع كل شئ فيه بروح الصداقة والودّ والقرابة ..
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذا الكون كله ويتعامل معه بروح المودة الصافية، كان يرى الهلال فيستقبله بفرح ويقول :الله أكبر، اللّهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربّنا وربّك الله [أخرجه الدارمي عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه الألباني] ، وكان يستقبل قطرات المطر بفرح ويقول :” إنها قريبة عهد بالله “.انتهى كلام الشهيد سيد قطب .
وانظر الى الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يتفاعل مع الظواهر الكونية ومع الكون والطبيعة حوله :
إن كان مطراً قال :”اللهم صيباً هنيئاً [رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه الالباني ]، وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال :اللهم أسألك خيرها وخير مافيها ، وخيرما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أُرسلت به ” . وعن عبد الله بن الزبير أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد، ترك الحديث وقال :” سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته
وما أروع قوله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى جبل أُحد فيقول :هذا جبل يحبنا ونحبه ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم من ودّ وألفة وتجاوب بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مظاهرها المتمثل في هذا الجبل .
وكذلك روى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يستند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صُنع المنبر واستوى عليه اضطربت تلك السارية كحنين الناقة ـ أي بكت ـ حتى سمعها أهل المسجد ، حتى نزل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكتت ” [سنن النسائي]
ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله (كتاب أهوال يوم القيامة) مُعقبّاً على قوله تعالى {كم تَركُوا من جنَّاتٍ وعيون * وزُرُوعٍ ومقام ٍ كريم* ونَعمة ٍ كانُوا فيها فاكهين * كذلكَ وأورثنَاها قوماً أخرين * فما بَكتْ عليهمُ السَّماءُ والأرضُ وما كانوا مُنظَرين} ” [الدخان 25 ـ29].
يقول الشيخ “إذن السماء تبكي، والأرض تبكي، ومعنى ذلك أن لهما عاطفة راقية ..ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مات العبد الصالح بكى عليه موضعان : موضع سجوده في الأرض، وموضع صعود صلاته ودعواته”…. وهكذا نرى أن المادة لها عواطف .. وأنها تكره العاصين والكافرين .. ويثقل عليها أن تكون في خدمتهم، ولذلك فهي تتعجل والوقت يمر ثقيلاً عليها لأنها تريد أن ترى ابن أدم هذا الذي كفر بالله وبنعمه وهو يُجازى على كفره ..ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي:مامن يوم تطلع شمسه إلا وتنادي السماء تقول:يا رب ائذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم،فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وتقول البحار: يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك..وتقول الارض:يا رب ائذن لي أن أطبق على ابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك.فيقول الله تعالى:دعوهم. دعوهم. لو خلقتموهم لرحمتموهم. إنهم عبادي. فإن تابوا فأنا حبيبهم.وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم”.
ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله (مشاهد يوم القيامة) معقباً على ذلك أيضاً:
“إذن فالأرض بنص القرآن تبكي،ولكننا لا نسمع بكاءها..وما دام هناك بكاء فلابد أن يسبقه حس وعاطفة..إذن فهذا الجماد الذي نعتقد أنه لاحياة فيه..فيه حس وعاطفة..ولكنك لاتعرف عنهما شيئاً ولا تدرك وجودهما..فإذا سمعت هذا فلا تنكره..ولكن قل إن الوجود شيء، وإدراك هذا الوجود شيء آخر..ورسول الله صلى الله عليه وسلم سمع هذا التسبيح والحصى في يديه…ولكن هل معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع هذا التسبيح والحصى في يده…هل معنى هذا أن الحصى لا يسبح، سواء كان في يد نبي أو في يد غيره من البشر…أو إذا لم تمسسه يد…مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى:{وإن من شيءٍ إلاّ يُسبِّحُ بحمدهِ ولكن لاتفقهونَ تسبيحهم}[الإسراء 44]، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وسَخَّرنا معَ داودَ الجبالَ يُسَبِّحنَ}[الأنبياء79].
إذن فالجبال تسبح..والحصى يسبح..وكل شيء في الكون دائم التسبيح لله سبحانه وتعالى…ولكننا لا نفهم هذا التسبيح ولا نفقهه..والسماء تبكي والأرض تبكي وقد تضحكان، ولكننا لا ندرك هذا..بل إن الأرض وهي أمامنا جماد ليس فيه حياة…لها حياة ذكر لنا القرآن الكريم لمحة عنها في قوله تعالى:{وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماءَ اهتزَّت ورَبَت وأنبتتْ من كُلِّ زوجٍ بهيج}[الحج5]
ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله أيضاً في كتاب “مشاهد يوم القيامة”:
“لابد أن نعرف معنى الحياة والمقصود بها…وهل هي الحياة بمفهومنا أم أن الحياة في الكون بمفهوم آخر يختلف تماماً عن مفهومنا…نحن نفهم الحياة على أساس أنها حسّ وحركة… الإنسان فيه حياة لأنه يحس، ويعقل ويتحرك.. والحيوان فيه حياة أيضاً لأنه يحس ويتحرك. أما النبات فهناك من يقول: أن فيه حركة لأنه ينمو ويكبر ويثمر ويذبل..فيه نوع من التغيير والحركة…حركة النمو.إذن فيه نوع من الحياة..أما الجماد في مفهومنا فليس فيه حياة، لأنه لا يحس ولا يتحرك ولاينمو.
ويتابع الشيخ الشعراوي:
“وأجناس الكون أربعة..أدناها الجماد، وتنتهي حياته المنظورة لنا بخاصة النمو، وهي أول خواص النبات… لذلك نجد عدداً من الشِعب المرجانية وهي جماد تنمو في البحر..أما النبات فيبدأ بخاصية النمو التي انتهى عندها الجماد، وينتهي بخاصية الحس التي يتميز بها الحيوان..فتجد بعض النباتات إذا لمستها أحاطت بك،أو أغلقت أوراقها، وهكذا تنتهي الحياة في النبات عند الحس…وتبدأ الحياة في الحيوان بالحس والحركة…وتنتهي بشيء من التمييز، وهو من صفات العقل… فنجد أن أرقى الحيوانات،وهي القردة ـ تستطيع إلى حد ما ـ أن تقوم ببعض الحركات التي فيها نوع من التمييز.. وهو ما تبدأ به حياة الإنسان…فلا يوجد إنسان ليس له عقل مميز..وتنطلق مظاهر الحياة في الإنسان مع العقل إلى آفاق بلا حدود..وتظل ترتقى وترتقى مع ارتقاءات العقل إلى ما شاء الله.
ويتابع:”هذه هي مظاهر الحياة كما نفهمها نحن..فكل جنس من أجناس الكون ـ جماداً كان أو نباتاً أو حيواناً أو إنساناً ـ يبدأ عند النهاية التي يصل إلى الجنس الذي قبله…ولكن هل مفهومنا في الحياة صحيح؟وهل الحياة هي الحس والحركة فقط؟وهل خلق الله الأشياء في الدنيا جامدة.ثم يجعلها يوم القيامة تنطق وتتكلم؟فالحياة في الدنيا،وهي التي يشارك فيها المؤمن والكافر، قصارى ما تعطينا الحس والحركة.فهل هذه حقيقة هي مظاهر الحياة؟أم أن هناك مظاهر أخرى وأسراراً في الكون لاندري عنها شيئاً..
في معنى الحياة يحكمنا القرآن الكريم…ماذا قال الله سبحانه وتعالى…اقرأ قول الحق:{لِيهلِكَ من هَلكَ عن بيّنةٍ ويَحيا من حيَّ عن بيّنة}[الأنفال 42].إذا تدبرنا في هذه الآية نكون قد عرفنا من القرآن أن الهلاك مقابل للحياة… أو ضد الحياة…هناك حي وهناك من هلك…أي لا حياة له..و يأتي الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى ليقول:{كلُّ شَيءٍ هالكٌ إلا وجههُ}[القصص88].وما دام الله سبحانه وتعالى قال كل شيء سيصبح هالكاً…إذن فكل شيء فيه حياة… أو ما يقال عنه شيء فيه حياة… لأن الحق سبحانه وتعالى يقول عندما تاتي القيامة سيهلك كل شيء إلا وجه الله…إذن فقبل ساعة القيامة يكون كل شيء فيه حياة…وطبعاً قبل ساعة القيامة يكون هناك جماد ونبات وحيوان وإنسان…فإذا أضفنا إلى ذلك قول الحق سبحانه وتعالى:{وإنْ من شيء إلاّ يُسبِّحُ بِحمدهِ ولكنْ لا تفقهونَ تَسبيحَهُم}[الإسراء44]، يكون كل ما في الكون مسبحاً لله…يقول بعض العلماء أن كل شيء يسبح تسبيح دلالة على الخالق…نقول لهم لو أنه كان تسبيح دلالة نكون قد فهمناه… ولكن الله يقول:{ولكنْ لاتفقهونَ تسبيحهم}. إذن فنحن لا نفهم هذا التسبيح، إذا وصلنا إلى هذه النتيجة نكون قد عرفنا أن كل شيء في الكون له حياة..وهذه الحياة تناسب مهمته…إذن فالأشياء التي نراها أمامنا ساكنة لا تنطق ولا تتكلم.. هي في الحقيقة تنطق وتتكلم ولكننا لا نسمعها…وفي ذلك يقول الحق: {أنطقنا الله الذي أنطقَ كُلَّ شيءٍ}[فصلت 21].
وجاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرّعليه بجنازة فقال مستريح ومستراح منه . قالوا يارسول الله، ما المستريح وما المستراح منه ؟ قال : العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها الى رحمة الله والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب” .
وحتى الحيتان في جوف الماء تستغفر لطالب العلم، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض، والحيتان في جوف الماء،وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورثوا ديناراً، ولا درهماً ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ” [ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي] .

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال في قوله تعالى في سورة الحديد:{سبح لله مافي السموات والأرض}:

“ونحن لا نعلم شيئاً عن طبيعة هذا الوجود وخصائصه أصدق مما يقوله لنا الله عنه ف”سبح لله ما في السماوات والأرض”تعني:”سبح لله ما في السماوات والأرض” ولا تأويل ولا تعديل!ولنا أن نأخذ من هذا أن كل ما في السموات والأرض له روح،يتوجه بها إلى خالقه بالتسبيح وإن هذا لهو أقرب تصور يصدقه ماوردت به الآثار الصحيحة،كما تصدقه تجارب بعض القلوب في لحظات صفائها وإشراقها،واتصالها بالحقيقة الكامنة في الأشياء وراء أشكالها ومظاهرها.

ويقول سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى في سورة الرحمن{والنجم والشجر يسجدان}:

“والنجم والشجر يسجدان.إن هذا الوجود مرتبط ارتباط العبودية والعبادة بمصدره الأول،وخالقه المبدع.والنجم والشجر نموذجان منه،يدلان على اتجاهه كله.وقد فسر بعضهم النجم بأنه النجم في السماء.كما فسره بعضهم بأنه النبات الذي لا يستوي على سوقه كالشجر.وسواء كان هذا أم كان ذاك فإن مدى الإشارة في النص واحد.ينتهي إلى حقيقة اتجاه هذا الكون وارتباطه.والكون خليقة حية ذات روح.روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن.ولكنها في حقيقتها واحدة.ولقد أدرك القلب البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة الساربة في الكون كله.وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه.أدركها بالإلهام اللدني فيه،ولكنها كانت تغيم عليه.وتتوارى عنه كلما حاول اقتناصها بعقله المقيد بتجارب الحواس!

فإلى أين يتوجه الكون بحركته التي هي قاعدته وخاصيته؟القرآن يقول:إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه وهي الحركة الأصيلة .فحركة ظاهره لا تكون إلا تعبيراً عن حركة روحه،وهي الحركة التي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها هذه{والنجم والشجر يسجدان}ومنهالآتسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن}،{وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}ومنها{ألم ترَ أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات}{كل قد علم صلاته وتسبيحه}.

وتأمل هذه الحقيقة،ومتابعة الكون في عبادته وتسبيحه،مما يمنح القلب البشري متاعاً عجيب،وهو يشعر بكل ما حوله حياً يعاطفه ويتجه معه إلى خالقه وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها،وهي تدب فيها جميعاً،وتحيلها إخواناً له ورفقاء.إنها إشارة ذات أبعاد وآماد وأعماق”.

وقد جاء في القرآن الكريم:{يا جبال أوبي معه والطير}فإذا الجبال كالطير تؤوب مع داود.وجاء في الأثر:أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إن بمكة حجراً كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن”.وروى الترمذي بإسناده عن علي بن طالب كرم الله وجهه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها،فما استقبله شجر ولاجبل إلا وهو يقول:السلام عليك يا رسول الله“.وروى البخاري في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لزق جذع.فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه حنّ الجذع حنين الناقة فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم فمسحه فسكن”.

يقول تعالى في سورة سبأ:{ولقد آتينا داود منا فضلاً ياجبالُ أوّبي معهُ والطيرَ وألنا لهُ الحديدَ}[سبأ 10].

يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال:”تذكر الروايات أن داود عليه السلام أوتي صوتاً جميلاً خارقاً في الجمال،كان يرتل به مزاميره،وهي تسابيح دينية.والآية تصور من فضل الله على داود عليه السلام أنه قد بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الكائنات،فاتصلت حقيقتها بحقيقته،في تسبيح بارئها وبارئه،ورجعّت معه الجبال والطير،إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز،حين اتصلت كلها بالله صلة واحدة مباشرة،تنزاح معها الفوارق بين نوع من خلق الله ونوع،وبين كائن من خلق الله وكائن،وترتد كلها إلى حقيقتها اللدنية الواحدة،التي كانت تغشى عليها الفواصل والفوارق،فإذا هي تتجاوب في تسبيحها للخالق،وتتلاقى في نغمة واحدة،وهي درجة من الإشراق والصفاء والتجرد لا يبلغها أحد إلا بفضل الله،يزيح عنه حجاب كيانه المادي،ويرده إلى كينونته اللدنية التي يلتقي فيها بهذا الوجود،وكل ما فيه،وكل من فيه بلا حواجز ولا سدود”.
2 ـ نظرة تأمل وتدبر :
فالإسلام تَعبدَّ الانسان بالنظر العقلي، أي ان العقلية العلمية التي ينشئها القران هي العقلية التي تقوم على النظر والتفكر، فالنظرعندها فريضة، والتفكر لديها عبادة كما يقول الشيخ القرضاوي ـ مفهوم العلم وتكوين العقلية العلمية ـ ويتابع حفظه الله:
“والمراد بالنظر : النظر العقلي، وهو الذي يستخدم الإنسان فيه فكره في التأمل والاعتبار، بخلاف النظر البصري، فهوالذي يستخدم الإنسان فيه عينه . قال الإمام الراغب :” النظر : تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشئ ورؤيته، وقد يُراد به التأمل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وهو الروية يقال نظرت فلم تنظر : أي لم تتأمل ولم تترو ” .
فعلى الإنسان أن يبدأ بالنظر في نفسه أولاً، ثم في أقرب الأشياء إليه .
يقول تعالى :{ فَلينظُرِ الإنسانُ مِمَّ خُلِق* خُلِقَ من ماءٍ دافق* يخرجُ من بينِ الصُّلبِ والترائب* إنَّهُ على رجعِهِ لقادر[الطارق 5 ـ8]، {فَلينظُرِ الإنسانُ إلى طعامِه* أنَّا صَببنا الماءَ صَباًّ* ثُمَّ شَققنا الأرضَ شَقَّاً* فأنبتنا فيها حَبَّاً *وعِنباً وقَضباً* وزَيتوناً ونخلاً *وحَدائقَ غُلْباً* وفاكهةً وأباًّ* مَتاعاً لكُم ولأنعَامِكُم }” [عبس 24 ـ 32] . ثم ينتقل بنظره الى ماحوله متأملاً متدبراً معتبراً، لينتقل من المصنوع الى الصانع،ومن الأثر الى المُؤثّر، ومن الكون الى المُكّون .
يقول تعالى :{أفلا يَنظُرونَ إلى الإبلِ كيفَ خُلِقتْ* وإلى السَّماءِ كيفَ رُفِعَتْ* وإلى الجبالِ كيفَ نُصِبتْ* وإلى الأرضِ كيفَ سُطِحت } [ الغاشية 17-20] ، {قُلِ انظُروا ماذا في السَّمواتِ والأرضِ وما تُغني الآياتُ والنُّذُرُ عن قومٍ لا يؤمنون} [يونس101 ] { أولم يَنظُروا في مَلكُوتِ السَّمواتِ والأرضِ وما خَلقَ اللهُ من شئ[الأعراف 185 ] .
ومن داخل النفس الى آفاق الكون الفسيح الذي لا يعلم سعته إلا خالقه {وفي الأرضِ آياتٌ للموقنين *وفي أنفُسِكُم أفلا تُبصرون} [الذاريات 20- 21] ، {قُل سيروا في الأرضِ فانظُروا كيفَ بدأَ الخَلقَ} [العنكبوت 20 ]، {أفلم يَسيروا في الأرضِ فتكُونَ لهم قُلوبٌ يَعقلونَ بها أو أذانٌ يسمعونَ بها فإنَّها لا تَعمى الأبصارُ ولكنْ تَعمى القُلوبُ التي في الصدور[الحج 46] .
ويتابع : “ومثل النظر العقلي : الرؤية العقلية، فقد حثّ القرآن في آيات كثيرة على هذه الرؤية التي يقصد بها رؤية العقل لا رؤية العين، وهي رؤية تشمل كل المخلوقات في الارض أو في السماء مما يُبيّن عظمة خالقها ، وروعة تدبيره وبالغ حكمته، وسابغ نعمه على عباده، كما تشمل الوقائع والأحداث، التي تبرز قدرة الله تعالى وهيمنته على الكون وحده كما تبرز عدالته وأنه يملي ويمهل ولكنه لا يغفل ولا يهمل .
نقرأ مثل هذه الآيات {ألم يَرَوا الى الطَّيرِ مُسخَّراتٍ في جَوِّ السَّماءِ ما يُمسِكُهُنَّ إلاّ اللهُ إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يؤمنون[النحل 79] ،{أوَ لَم يَروا الى الطَّيرِ فوقَهُم صَافَّاتٍ ويَقبضنَ ما يُمسِكُهُنَّ الّا الرَّحمنِ إنَّهُ بِكُلِّ شئ بصير[الملك19 ] {أوَ لَم يَرَوا أنَّا خَلقنا لهُم ممَّا عَمِلتْ أيدِينَا أنعاماً فَهُم لها مالكون * وذَلّلناها لهُم فَمنها رَكُوبُهم ومنها يأ كلون *ولهُم فيها مَنافعُ ومَشاربُ أفلا يشكرون[ يس 71-73] وينتقل من الطير والأنعام الى الأرض ومياهها ونباتاتها وعلاقة السماء بها والظواهر المتعلقة بها من الليل والنهار. يقول سبحانه : {أوَلَم يَرَوا إلى الأرضِ كم أنبتنا فيها من كُلِّ زَوجٍ كريم[الشعراء 7 ], {أوَلَم يَرَوا أنَّا نَسُوقُ الماءَ الى الأرضِ الجُرُزِ فَنُخرِجُ بهِ زرعاً تأكُلُ منهُ أنعامُهُم وأنفُسُهُم أفلا يُبصرون[السجدة 27 ]، {ألمْ ترَ أنَّ اللهَ سَخَّرَ لكُم مافي الأرضِ والفُلكَ تجري في البحرِ بأمرهِ ويُمسِكُ السَّماءَ أن تقعَ على الأرضِ إلا بإذنهِ إنَّ اللهَ بالنّاسِ لرؤُوفٌ رحيم[الحج 65] ، {ألمْ ترَ أنَّ اللهَ يُولجُ اللّيلَ في النهارِ ويُولجُ النَّهارَ في اللّيلِ وسخَّرَ الشَّمسَ والقمرَ كُلٌّ يجري إلى أجلٍ مُسمّى وأنَّ اللهَ بما تَعملونَ خبير[لقمان29 ] ، {ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ أنزلَ من السَّماءِ ماءً فأخرجنا بهِ ثمراتٍ مُختلفاً ألوانُها ومن الجِبالِ جُدَد بِيضٌ وحُمْرٌ مُختلفٌ ألوانُها وغَرابيبُ سُودٌ* ومنَ النَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ مُختلفٌ ألوانُهُ كذلكَ إنَّما يخشى اللَه من عبادهِ العلماء[فاطر 27-28] {أولم يَروا إلى ماخلقَ اللهُ من شئٍ يَتفيّؤا ظِلالُه ُعن اليمينِ والشَّمائلِ سُجَّداً لله وهم داخرون } [النحل48].
إن الله خلق كل شئ فأحسن خلقه، وأحكم صنعه من حيث الكمّ والنوع والخصائص والوظيفة :

{صُنعَ الله الذي أتقنَ كُلَّ شئٍ إنّهُ خبير بما تفعلون[النمل 88]،{إنَّا كُلَّ شَئٍ خلقناهُ بِقَدر[القمر 49]،{وخَلقَ كُلَّ شَئٍ فقدَّرهُ تقديراً}[ الفرقان 2]
{ والأرضَ مَدَدنَاها وألقينَا فيها رَواسيَ وأنبتنا فيها من كُلِّ شَئٍ موزون[الحجر 19]،{ماترى في خَلقِ الرَّحمنِ من تَفاوت[الملك3]
{ربّنَا ماخلقتَ هذا باطلاً[آل عمران 191]،{ولقد جعلنا في السَّماءِ بُروجاً وزَيّنّاها للناظرين[الحجر 16 ]
{ والأنعامَ خَلقها لكُم فيها دِفءٌ ومنافعُ ومنها تأكلون* ولكُم فيها جَمالٌ حينَ تُريحونَ وحينَ تسرحون[النحل5 ـ 6] .
يقول الإمام القزويني في كتاب عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات (نقلا عن كتاب تراث الانسانية ج2 ص 686):
يقول تعالى : {أفلم ينظروا إلى السَّماءِ فَوقهم كيفَ بنيناها وزَينّاها ومالها من فروج} يقول معقباً:
“وليس المراد من النظر تقليب الحدقة نحوها، فإن البهائم تشارك الإنسان فيه، ومن لم ير من السماء إلا زرقتها، ومن الأرض إلا غبرتها، فهو مشارك للبهائم في ذلك وأدنى حالاً منها واشدّ غفلة، كما قال تعالى : {ولهم قُلوبٌ لا يفقهونَ بها ولهم أعينٌ…} إلى قوله تعالى {أولئكَ كالأنعامِ بل هم أضل}، يقول المراد من النظر التفكر في المعقولات والنظر في المحسوسات والبحث عن حكمتها وتصاريفها لتظهر له حقائقها، فإنها سبب اللذّات الدنيوية والسعادات الأخروية ، وكلما أمعن النظر فيها ازداد من الله تعالى هداية ويقينا ونورا وتحقيقا، والفكر في المعقولات لا يتأتى إلا لمن له خبرة بالعلوم والرياضيات بعد تحسين الأخلاق وتهذيب النفس، فعند ذلك تتفتح له عين البصيرة، ويرى كل شئ من العجب ما يعجز عن إدراك بعضها “.
ويقول الدكتور العلاّمة يوسف القرضاوي في مقال (واقعية الإسلام وواقع الإنسان):
“إن المُتجوِّل في رياض القرآن يرى بوضوح أنه يريد أن يغرس في عقل كل مؤمن وقلبه الشعور بالجمال المبثوث في أجزاء الكون من فوقه ومن تحته ومن حوله : في السماء، والأرض، والنبات، والحيوان، والإنسان .
في جمال السماء يقرأ قوله تعالى : {أفَلَم يَنظُروا إلى السَّماءِ فَوقَهُم كيفَ بَنيناها وزَيّنّاها وما لها من فُروج[ق 6 ]، {ولقد جعلنا في السَّماءِ بُروجاً وزَيّنّاها للناظرين[الحجر 16] .
وفي جمال الأرض : { والأرضَ مَدَدناها وألقينا فيها رَواسيَ وأنبَتنا فيها من كُلِّ زوجٍ بهيج[ ق7 ]، {وأنزلَ لكُم مِنَ السَّماءِ ماءً فأنبتنا بهِ حَدائقَ ذاتَ بهجةٍ[النمل 60] .
وفي جمال الحيوان : {والأنعامَ خلقها لكُم فيها دِفءٌ ومنافع ومنها تأكلون* ولكُم فيها جَمالٌ حين تُريحون وحين تَسرحون[النحل 6 ].
وفي جمال الإنسان : {وصَوَّرَكُم فأحسنَ صُورَكُم[التغابن 3 ]، {الذي خَلقَكَ فَسَوَّاكَ فَعدَلك *في أيِّ صُورَةٍ ماشاءَ رَكَّبك[الانفطار7 ـ 8] .
ويتابع :
“إ نّ المؤمن يرى يد الله المُبدعة في كل ما يشاهده في هذا الكون البديع ويبصر جمال الله في جمال ما خلق وصوّر، يرى فيه {صُنعَ الله الذي أتقنَ كُلّ شئ } [النمل ]33 ، {الذي أحسنَ كُلَّ شئٍ خلقه} [السجدة ]7 . وبهذا يحب المؤمن الجمال في كل مظاهر الوجود من حوله، لأنه أثر جمال الله جل وعلا . وهو يحب الجمال كذلك،لأن ” الجميل ” اسم من أسمائه تعالى الحُسنى وصفة من صفاته العلا . وهو يحب الجمال ايضاً لأن ربّه جميل يحب الجمال” .
وهناك آيات كثيرة أخرى تدل على نفس المعنى والمضمون يمكن الرجوع إليها .
ويقول الدكتور عماد الدين خليل (نفس المرجع السابق):
“عندما دعا القرآن الكريم الناس إلى التأمل في الطبيعة ، لم تكن دعوته هذه تنصب على الجانب التجريبي العملي من أجل استغلال كنوز الطبيعة وامكاناتها فحسب، وهو ما يهدف العلم إليه، بل رافق هذه الدعوة توجيه إلى الجانب الانفعالي الجمالي من أجل تنمية وتهذيب الإحساس البشري ورفعه إلى الدرجة التي يستحقها الإنسان باعتباره مخلوقاً متذوقاً حساساً ، فالقرآن الكريم دعوته مزدوجة : التأمل العلمي، والحدس الجمالي، فهو يخاطب الإنسان بإ سلوبه الفني المعجز الذي يعرف كيف يُحرك كل مكونات الإنسان “.
ويقول الشهيد سيد قطب (كتاب مقومات التصور الإسلامي) :
“وهو كون جميل باهر،لا يقف التناسق والتوافق فيه عند حدود الدقة والانتظام والضبط ، ولكن التوافق والتناسق فيه يتجهان الى الكمال والجمال والحسن والزينة .. والمنهج القرآني يُوجه أنظار البشر ومشاعرهم إلى مافي الكون حولهم من هذه البدائع،إلى جانب مايُوجههم الى إدراك ما فيه من خير ونعمة ومصلحة وكفاية لحاجاتهم .إن عنصر الجمال مقصود قصداً في بناء الكون،وفي ظواهره وفي الحياة المبثوثة فيه،وإيقاظ حاسّة الجمال في البشر مقصود كذلك قصداً في المنهج القرآني، وفي التربية الإسلامية بهذا المنهج ..إن هذا الإنسان مخلوق فائق على الحيوان، فمطالبه الأساسية ليست هي مجرد الكفاية الحيوانية من الطعام والشراب والجنس ـ كما تقول الماركسية ـ فمن مطالبه الأساسية كذلك أن يستمتع بالجمال في شتى صوره . جمال المناظر وجمال المشاعر . من أجل هذا تتكّفل عقيدته الصحيحة الرفيعة في الإسلام، أن توقظه الى الجمال في الكون وفي الحياة المبثوثة فيه، وإلى بدائع صنع الله في الكون والحياة . فالله سبحانه جعل الجمال عنصراً من عناصربناء الكون والحياة، والكمال في صنعته الباهرة يُحقق هذا الجمال .. إن المنهج القرآني يوجه أنظار البشر الى “المنفعة ” الحاصلة لهم من خلقة هذا الكون وطبيعته، وإلى دلالة هذا الخلق على خالقه .. يقول لهم : {هُوَ الذي جعلَ الشَّمسَ ضِياءً والقمرَ نُوراً وقدَّرهُ مَنازِلَ لتعلمُوا عددَ السِّنينَ والحِسابَ ما خلقَ اللهُ ذلكَ إلا بالحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لقومٍ يعلمون[ يونس 5 ]ويقول تعالى : {وهُوَ الذي جَعلَ لكُمُ النُّجُومَ لِتهتدوا بها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ قد فصَّلنا الآياتِ لِقومٍ يعلمُون[الأنعام 97} ،ويقول تعالى : {ومِن رحمتهِ جعلَ لكُمُ الّليلَ والنَّهارَ لِتسكُنُوا فيهِ ولِتبتغُوا من فضلِهِ ولعلَّكُم تشكرون[القصص 73 ] ،وقال تعالى :” {وهُوَ الذي جَعلَ لكُمُ اللّيلَ لِباساً والنَّومَ سُباتاً وجَعلَ النَّهارَ نُشُورا*وهُوَ الذي أرسلَ الرّياحَ بُشرا بينَ يَدي رَحمتِهِ وأنزلنا من السَّماءِ ماءً طَهُورا * لِنُحيي بهِ بَلدةً ميتاً ونُسقِيَهُ ممَّا خَلقنا أنعاماً وأَناسيَّ كثيرا[الفرقان 47 ـ 49] ،وقال تعالى: {اللهُ الذي يُرسِلُ الرِّياحَ فَتُثيرُ سَحاباً فَيَبسُطُهُ في السَّماءِ كيفَ يشاءُ ويجعلُهُ كِسَفاً فترى الوَدقَ يخرجُ من خِلالِهِ فإذا أصابَ بهِ من يشاءُ من عبادِهِ إذا هُم يستبشرون * وإن كانُوا من قَبلِ أن يُنَّزلَ عليهم من قَبلهِ لَمُبلسين * فانظُر الى آثارِ رَحمةِ الله كيفَ يُحي الأرضَ بعد موتِها إنَّ ذلكَ لَمُحي الموتى وهُوَ على كُلِّ شئٍ قدير[الروم 48ـ 50] .
ويتابع رحمه الله :
“وإلى هنا فالتوجيه هو إلى المنفعة والمصلحة في حدود الحاجة والضرورة ..ولكن المنهج القرآني يتجاوز بالإنسان حدود المنفعة والضرورة ، فيوجه نظره ومشاعره الى الكمال والجمال والتناسق والتوافق والحس والزينة، والمنظر والبهجة .. هذه اللفتات التي يتميز بها الإنسان على الحيوان، ويرتفع ويترقى ويرفرف وينطلق .. يقول له : {الذي خَلقَ سَبعَ سماواتٍ طِباقاً ماترى في خَلقِ الرَّحمنِ من تَفاوتٍ فارجِعِ البَصرَ هل ترى من فُطُور * ثُمَّ ارجِعِ البَصرَ كَرَّتينِ ينقلب إليكَ البَصَرُ خاسئاً وهو حسير * ولقد زَينَّا السَّماءَ الدُّنيا بِمصابيحَ وجعلناها رُجُوماً للشِّياطينِ وأَعتدنا لهُم عذابَ السَّعير[الملك 3 ـ 5 ].
فيوجه نظره الى مافي بناء الكون كله من توافق وتناسق وكمال وجمال وزينة تبلغ ذلك الحد الباهر،الذي يرجع البصر منه حسيراً، لا يجد نقصاً ولا يجد ثغرة ولا يملك التطلع الى شئ وراءه . بل لايملك استيعابه .. وهو تعبير دقيق عن حالة واقعة، فالجمال الكوني حين يتطلع الإنسان إلى السماء، يبهر النظر الإنساني بحيث لا يشبع منه، وبحيث لايستوعبه حسّه كذلك . إنها حالة العجز عن استيعاب كل هذا الجمال الفائض الباهر . كذلك يوجه الحسّ الإنساني إلى جمال الحركة اللطيف في بعض مشاهد الكون : {ألَم تَرَ إلى رَبِّكَ كيفَ مَدَّ الظِّلَّ ولو شاءَ لَجعلَه ُسَاكناً ثُمَّ جَعلنا الشَّمسَ عليهِ دليلا * ثُمَّ قَبضناهُ إلينا قَبضاً يسيرا}” [الفرقان 45 ـ 46] . وجمال الظلال، وجمال الحركة الوئيدة للظل، لون فائق من ألوان الجمال اللطيفة لايدركه الا الحسّ المرهف اللطيف . والى هذا المستوى المرفرف يتجه المنهج القرآني بالحسّ الإنساني في تصويره لحقيقة الكون من حوله .كما يُوجه الى مشهد الليل ومشهد النهار ، بمثل هذه اللمسة المبدعة {والّليلِ إذا عَسعسَ * والصُّبحِ إذا تنفَّسَ} [التكوير 17 ـ18 ] ، وفي {والفَجرِ *وليالٍ عَشرِ * والشَّفعِ والوَترِ * والّليلِ إذا يَسْر الفجر[ 1 ـ4] ، فإذا الليل والصبح كائنان تدّب فيهما الحياة : الليل يعسعس ـ أو يسري ـ والصبح يتنفس . ويُريه النجوم وهي تغيب وتتوارى كما لو كانت عرائس أو غزلانا تخنس وتختبئ في كناسها : {فلا أُقسِمُ بالخُنَّسِ * الجَوارِ الكُنَّس} [التكوير 15 ـ 16] ،وهي لمسات جمالية يعجز البيان البشري أن يزيدها عرضا أو إيقاعا .. ويهدف المنهج القرآني الى رفع الإنسان إليها .وإطلاق مشاعره تجاهها، وهو يحدثه عن “حقيقة الكون ” من حوله ، ليتملى مافيه من جمال،إلى جانب ما فيه من منفعة له ومصلحة ، وإلى جانب مافيه من ضبط ودقة . ويوجهه الى تنوع الألوان وجمال هذا التنوع وتوزعه بين الجوامد والأحياء سواء: {ألم تَرَ أنَّ اللهَ أنزلَ من السَّماءِ ماءً فأخرجنا بهِ ثَمراتٍ مُختلفاً ألوانُها ومِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُختلفٌ ألوانُهَا وغَرابيبُ سُودٌ* ومِنَ النَّاسِ والدَّوابِ والأنعامِ مُختلفٌ ألوانُهُ كذلكَ إنَّما يَخشى اللهَ من عِبادهِ العلماءُ إنَّ اللهَ عزيزٌ غفورٌ } [ فاطر 27_28 ]، وهي لفتة مُوحية الى جمال الالوان وتنوعها وتوزعها بين الجوامد والأحياء سواء،وبالمثل يُوجهه الى الجمال في الأحياء ـ إلى جانب المنفعة المادية وزائدا على المنفعة المادية ـ لتلبية الحاجة الانسانية الى الجمال،ولإيقاظ مشاعره،وإطلاقها من قيد الضرورة والحاجة ،في اتجاه الجمال والمتعة .. يحدثه عن الجمال في الحيوان الى جانب المنفعة : {والأنعامَ خَلقَها لكُم فيها دِفءٌ ومَنافعُ ومنها تأكُلون * ولكُم فيها جَمالٌ حِينَ تُريحونَ وحِينَ تسرحونَ * وتَحملُ أثقالَكُم إلى بلدٍ لم تكونُوا بالغيهِ إلّا بِشِقِّ الأنفُسِ إنَّ ربَّكُم لرءوفٌ رحيم * والخيلَ والبِغالَ والحَميرَ لتركبُوها وزينةً ويَخلقُ ما لا تعلمون} [النحل 5 ـ 8]. ويحدثه عن الجمال في الزروع والثمار : {وهُوَ الذي أنزلَ من السَّماءِ ماءً فأخرجنَا بهِ نباتَ كُلِّ شئٍ فأخرجنَا منهُ خَضِراً نُخرجُ منهُ حَبَّاً مُتراكباً ومنَ النَّخلِ مِن طَلعِهَا قِنوانٌ دانيةٌ وجنّاتٍ من أعنابٍ والزَّيتونَ والرُّمانَ مُشتبِهاً وغيرَ مُتشابهٍ انظُروا إلى ثمرهِ إذا أثمرَ وينعِهِ إنَّ في ذلكُم لآياتٍ لقومٍ يؤمنون} [الأنعام99 ] . فالتوجيه هنا إلى النظر والاستمتاع بجمال الثمار وازدهائها وينعها،لا إلى طعومها ولا إلى أكلها ! كما يوجههم الى تملَّى بهجتها في قوله : { والأرضَ مَدَدناها وألقينا فيها رواسيَ وأنبتنا فيها من كُلِّ زوجٍ بهيج} [ق 7 ].
ويتابع رحمه الله : ” إنه كون جميل ذلك الكون الظاهر المشهود . وكون أجمل ذلك الكون المغيب الموعود،وكلاهما يتسع له تصور المسلم للكون، كما يصفه له خالق هذا الكون، الذي جملّه وزيّنه ، لأنه هو سبحانه يحب الجمال ويجعله عنصرا أساسيا في الخلق، يرفع الإنسان إلى مستوى تأمله وتمليه، ويوقظ فطرته ومشاعره إلى مجاليه،كما يوقظها لتدبر الدقة والنظام والتوافق والتناسق سواء” .
ويقول الدكتور توفيق الحكيم (كتاب تحت شمس الفكر ص 35):
“إن الفلكيون العظام في القرن السادس والسابع عشر مثل كوبرنيكوس وغاليليو وكبلر،وغيرهم كانوا ينظرون إلى الكواكب لا بعين العقل وحده ، بل بعين القلب أيضاً ، كانت السماء والنجوم في نظرهم مخلوقات حية ، كانوا يحسون في كتلة النجوم، وفي هذا الكون بأكمله، الروح الخالقة، ويد المبدع الأعظم .. ويتابع :” ما أروع هذه العبارة من كبلر : كل الخليقة ليست إلا سيمفونية عجيبة، في مجال الأجسام والأحياء .. كل شئ متماسك، مرتبط بعرى متبادلة لا تنفصم ، كل شئ يكون كلاً متناسقاً .. إن الله قد خلقنا على صورته، وأعطانا الأساس بالتناسق .. كل مايوجد حيّ متحرك ، كل كوكب، وكل نجم إن هو إلا حيوان ذو نفس،إن روح النجوم هي سر حركتها، وسبب ذلك النظام الذي تسير عليه الظواهر الطبيعية ”
ويتابع توفيق الحكيم :” أولئك رجال ساروا في بيداء العقل دون أن ينسوا دليل القلب،أُولئك هم العلماء العظام “.

ويقول توفيق الحكيم أيضاً(الرسالة العدد288):

“الشمس باعثة الحياة على الأرض.إنها تشرف علينا من مكان معين بمقدار.فإذا اقتربت منا أنملة هلكنا حرقاً،وإذا ابتعدت عنا أنملة متنا برداً.إن يد الحكمة الأزلية قد وضعتها في الموضع الذي لابد لها فيه من أن ترسل إلينا الدفء والخير والسلام.

ما أدق هندسة الكون!اللهم إني أعود إلى برجي وأنا شديد الإيمان بك،قريب الفهم لك،مدرك بعض الإدراك لمشيئتك في خلق الإنسان،مطمئن كل الاطمئنان إلى مراميك في إنشاء حواسنا الآدمية على هذا الضعف.إن ما اعتدنا أن نسميه ضعفاً وقصوراً في إدراكنا حقيقة الأشياء ليس إلا السياج الذي يحمي سعادتنا البشرية فإذا خرجنا عن نطاق هذا السياج فقد انقلبنا مخلوقات أخرى لا تتصل بالأرض ولا بجمالها ولا عواطفها.

اللهم إنك مع قصورنا قد صنعتنا على خير حال،ومع جهلنا قد هيأت لنا أحسن مآل”.
3 ـ نظرة استخلاف وتسخير :
لقد استخلف الله تعالى الإنسان على الأرض وجعله خليفة :
{وإذ قالَ رَبُّكَ للملائكةِ إنّي جَاعلٌ في الأرضِ خليفة[البقرة 30]،{وهُوَ الذي جَعلَكُم خلائفَ الأرضِ[الأنعام165 ]،{ولقد مَكَّناكُم في الأرضِ وجَعلنا لكُم فيها مَعايشَ قليلاً ما تشكرون[الأعراف 10]،
{ولقد كَرَّمنا بني أدمَ وحملناهُم في البَرِّ والبَحرِ ورزقناهُم من الطَّيباتِ وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلا[الإسراء 70]،{وعدَ اللهُ الذينَ أمنوا مِنكُم وعملوا الصالحاتِ لَيَستخلِفَنَّهُم في الأرضِ كَما استخلفَ الذينَ من قَبلِهم ولَيُمَكِّننَّ لهُم دِينَهُم الذي ارتضى لهُم ولَيُبَدِّلنّهُم من بعدِ خَوفهم أمناً يَعبُدُونني لا يُشركونَ بي شيئا ومن كفرَ بعدَ ذلكَ فأُولئكَ هُمُ الفاسقُون} ” [النور55 ].
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله(مشاهد يوم القيامة ص11):
“الكون كله بقواه الهائلة التي تفوق قدرة الإنسان ملايين المرات،والتي تستطيع أن تهلكه في لحظة واحدة..الكون كله بتلك القوى الهائلة الموجودة فيه مسخر لخدمة الإنسان..الشمس تعطي أشعتها له ولا تستطيع أن تعصي..والهواء يعطيه التنفس،ولا يستطيع أن يرفض..والبحار تعطيه الأمطار ولا تستطيع أن تقول لا..والأرض تعطيه كل خيراتها..فلا هي تقدر أن تمنع الزرع،ولا أن توقف الثمار عن الوجود..وهكذا نرى أن كل ما في الكون مسخر لخدمة الإنسان..الإنسان على إطلاقه…مؤمنه وكافره…عاصيه والمطيع”.
ويقول العلامة الدكتور القرضاوي في مقال (مظاهر التكريم الإلهي للإنسان مجلة الوعي الإسلامي العدد 130 شوال 1395 هجري):
“لقد أعلن الإسلام كرامة الإنسان، فاعتبره خليفة الله في الأرض، وهي منزلة اشرأبَّت إليها أعناق الملائكةِ، وتشَّوفت إليها أنفسهم، فلم يُعطوها، ومنحها الله للإنسان : {وإذ قالَ رَبُّكَ للملائكةِ إنّي جَاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتَجعلُ فيها من يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدماءَ ونحنُ نُسَبِّحُ بِحمدِكَ ونُقَدِّسُ لك قال إنّي أعلمُ مالاتعلمون* وعلَّمَ آدمَ الأسماءَ كُلَّها ثُمَّ عرضُهم على الملائكةِ فقالَ أنبئُوني بأسماءِ هَؤلاءِ إنْ كُنتُم صادقبن * قالوا سُبحانكَ لاعِلمَ لنا إلا ماعلّمتنا إنَّكَ أنتَ العليمُ الحكيم* قالَ يا آدمُ أنبئهُم بأسمائهم فلمَّا أنبأهُم بأسمائهم قالَ ألم أقُلْ لكم إنَي أعلمُ غَيبَ السَّمواتِ والأرضِ وأعلمُ ما تُبدُونَ وما كُنتُم تكتمون[البقرة 30 ـ 33 ].
لقد كرَّم الله تعالى الإنسان بالخلافة في الأرض، وهيأه لها بالعقل والعلم الذي تفوَّق به على الملائكة .
ويتابع الشيخ القرضاوي حفظه الله:
” وكان من تكريم الله للإنسان في نظرالإسلام أنه جعل الكون كله في خدمته،وسخَّر لمنفعته العوالم كلها : السماء والأرض الشمس والقمروالنجوم، والليل والنهار،الماء واليابس،البحاروالأنهار،والنبات والحيوان والجماد، كلّها مُسخَّرة لمصلحة الإنسان وسعادة الإنسان، كرامة من الله له، ونعمة منه عليه” .انتهى كلام القرضاوي .
وقد سخر الله تعالى للإنسان كل مقومات البيئة ومكوناتها،وسخر له ظواهر الكون الطبيعية ، ليستفيد منها وينتفع بها .
إن البيئة كلّها بأرضها وسمائها، وهوائها وجمادها، نباتها وحيواناتها ، مايلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، كل ذلك خلقه الحقّ تبارك وتعالى مُسخرَّاًومذللَّاً للإنسان، فهي خُلقت له، ومن أجله، وقد استخلفه الله عليها .
{ألم تَروا أنَّ اللهَ سَخَّرَ لكُم مافي السَّمواتِ وما في الأرضِ وأسبغَ عليكُم نِعَمهُ ظاهرةً وباطنةً[لقمان20]،{وسَخَّرَ لكُم مافي السَّمواتِ وما في الأرضِ جميعاً منهُ إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون[الجاثية 13]،{اللهُ الذي خلقَ السَّمواتِ والأرضَ وأنزلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فأخرجَ بهِ منَ الثَّمراتِ رِزقاً لكُم وسخَّرَ لكُمُ الفُلكَ لتجريَ في البَحرِ بأمرهِ وسخَّرَ لكُمُ الأنهار* وسخَّرَ لكُمُ الشَّمسَ والقمرَ دائبينِ وسخَّرَ لكُمُ الليلَ والنهار[إبراهيم 32 ـ33 ]،
{وإلى ثَمودَ أخاهُم صالحاً قالَ ياقومِ اعبدُوا اللهَ مالكُم من إلهٍ غيرُهُ هُوَ أنشأكُم من الأرضِ واستعمرَكُم فيها فاستغفرُوهُ ثُمَّ تُوبوا إليهِ إنَّ ربّي قَريبٌ مُجيب} [هود 61 ].
وجاء في الحديث الشريف :” إن الدنيا حلوة خضرة والله تعالى مستخلفكم فيها ” [رواه مسلم والنسائي ].
يقول الشيخ القرضاوي (المقال السابق):
“وتسخير الكون للإنسان يتضَّمن معنيين كبيرين :
أولهما : أنَّ الطاقات الكونية مهيأة ومبذولة للإنسان،فعليه أن يبذل جهده ويُعمل فكره في فتح مغاليقها ، واكتشاف مخبوئها ، ليستخدمها فيما يعود عليه بالخير والسعادة .
والثاني : أنَّ الإنسان هو واسطة العقد في هذا العالم ،فلا يجوز أن يؤله شيئاً فيه أو يتعبَّد له، رغباً أورهباً، والذين عبدوا بعض مظاهر الطبيعة أو القوى الكونية في العالم العلوي أو السفلي، قلبوا الحقائق وحولّوا الإنسان من سيد سُخِّر له الكون الى عبدٍ ذليل، يسجدُ لنجم أو شجرة أو بقرة أو حجر من الأحجار” . انتهى كلام القرضاوي .
سخر الله للإنسان الشمس، وبأشعتها وحرارتها يحصل الإنسان سنوياً حوالي أربعمئة ألف كيلو متر مكعب من الماء {وجعلنا من الماء كل شئ حي}، وبأشعة الشمس التي يرسلها الله بشكل موزون يكون الدفء، والتطهير، وحياة النبات والحيوان وكل الكائنات، ولو تجاوزت درجة معينة أو نقصت عنها لكان الخراب والتدمير .
وسخر الله للإنسان الأرض، بما فيها من أحياء كالنبات والحيوان، والتي هي غذاء له وكساء وركوب وله فيها منافع أخرى، وسخر له مافي الأرض من جماد كالجبال التي هي أوتاد تثبت هذه البسيطة ليعيش عليها مرتاحاً مستقراً، وسخر له البحار والأنهار يستخرج منها طعاماً طيباً وحلية للزينة، وسهل له ركوبها من خلال الفلك والسفن .
يقول الشهيد سيد قطب (الظلال ج1 ص56 ):
” وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد ـ سيدنا أدم ـ من الطاقات الكامنة والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الارض من قوى وطاقات وكنوز وخامات، ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية، وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الارض وتحكم الكون كله، والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته ،كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة، وإذن فهي منزلة عظيمة، منزلة هذا الإنسان، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم “.

والاستخلاف شرعاً يعني أن الإنسان وصيعلى هذه البيئة لا مالك لها، وأنه “مستخلفٌ” على إدارتها، واستثمارها، وإعمارها، وأمين عليها .
والاستخلاف يعني أن يتبع المخلوق أوامر خالق البيئة ومالكها الحقيقي.
والاستخلاف يعني أنه أمين على هذه الخلافة،أي يتصرف فيها تصرف الأمين المستأمن، فالأرض أرض الله، والعباد عباد الله، وهو يتصرّف حسب هذه الأمانة الموكلة له بشروط حددَّها الله سبحانه وتعالى ومنها حسن استغلالها وصيانتها والمحافظة عليها من أي تدمير أو انحراف.
والاستخلاف يعني “عمارة الارض ” {هُوَ أنشأكُم منَ الأرضِ واستعمَرَكُم فيها} [ هود61 ] ، والاستعمار هنا هو تعمير الأرض،فعمارة الأرض مشيئة أزلية .

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا يغرس المسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شىء إلا كانت له صدقة“[رواه مسلم عن جابر].وقال صلى الله عليه وسلم:”من أحيا أرضاً ميتة فهي له“[رواه الترمذي عن جابر وقال حديث حسن صحيح].

إن عمارة الأرض مستمرة لاتنقطع ولاتتوقف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

يقول الأستاذ محمد قطب رحمه الله(قبسات من الرسول ص16):

جاء في الحديث الشريف:”إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة،فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها،فليغرسها فله بذلك أجر[ذكره علي بن العزيز في المنتخب بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه.”عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني].

يقول الأستاذ محمد قطب معقباً:”ولعل آخر ماكان يدور في ذهن السامعين أن يقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث!

ولعلهم توقعوا أن يقول لهم الرسول الذي جاء ليذكر الناس بالآخرة،ويحثهم على العمل لها،ويدعوهم إلى تنظيف ضمائرهم وسلوكهم من أجل اليوم الأكبر:يوم الحساب الذي تدان فيه النفوس…لعلهم توقعوا أن يقول لهم:فليسرع كل منكم فليستغفر ربه عما قدمت يداه،وليتوجه لله بدعوة خالصة أن يميته على الإيمان ويقبل توبته ويبعثه على الهدى..ولعلهم توقعوا أن يقول لهم:أسرعوا فانفضوا أيديكم من تراب الأرض..وتطهروا..اتركوا كل أمور الدنيا وتوجهوا بقلوبكم إلى الآخرة.انقطعوا عن كل مايربطكم بالأرض.اذكروا الله وحده.توجهوا إليه خالصين من كل رغبة في الحياة،حتى إذا ذهبتم إلى ربكم،ذهبتم وقد خلصت نفوسكم إليه،فيقبل أوبتكم ويظلكم بظله،حيث لا ظل إلا ظله.ولو قال لهم ذلك فهل من عجب فيه؟!أليس الطبيعي وقد تيقن الناس من القيامة أن ينصرفوا للحظة المرهوبة؟أليس الطبيعي والهول المهول على الأبواب أن ينسلخ الناس من كل وشيجة تربطهم بالأرض،ويتطلعوا في رهبة الخائف وذهول المرتجف إلى قيام اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى،وماهم بسكارى،ولكن عذاب الله شديد؟!

فإذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم :”لاتقفوا مذهولين مرجوفين مرعوبين،ولكن توجهوا إلى الله أن ينقذكم من هذا الكرب العظيم،أخلصوا له الدعاء فهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.ولا تيأسوا من روح الله إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.هلموا تطهروا،وصلوا إلى الله خاشعين…

إذا قال لهم الرسول ذلك فقد وضع البلسم الشافي على الأرواح المكلومة.وقد وضع يده الحانية يربت بها على النفوس المهتزة المزلزلة الراجفة فتطمئن.وقد فتح الكوة التي يطل منها على القلوب المكفهرة المذعورة بصيص الأمل والأمن والرجاء..

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئاً من ذلك كله الذي توقعه السامعون.

بل قال لهم أغرب مايمكن أن يخطر على قلب بشر!

قال لهم:إن كان بيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها…فله بذلك أجر!

يا الله! يغرسها؟!وماهي؟! فسيلة النخل التي لاتثمر إلا بعد سنين؟والقيامة في طريقها أن تقوم؟وعن يقين؟!

يا الله!لن يقول هذا إلا نبي الإسلام خاتم النبيين.

الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يوجه القلوب هذا التوجيه،ونبي الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يهتدي هذا الهدي،ويهدي به الآخرين!

وهذا تاريخ الأرض كلها..ليس فيه مثل هذه القبسة من قبسات الرسول!

ويتابع الاستاذ محمد قطب رحمه الله:”وكم من معنى تستخلصه النفس من هذه الكلمات البسيطة العميقة في آن.

أول مايخطر على البال هو هذه العجيبة التي يتميز بها الإسلام:أن طريق الآخرة هو هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق!

إنهما ليسا طريقين منفصلين:أحدهما للدنيا والآخر للآخرة!وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك،ويربط مابين هذه وتلك.ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة.وطريق للدنيا اسمه العمل!وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة.وهو طريق لايفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل.كلاهما شيء واحد في نظر الإسلام.وكلاهما يسير جنباً إلى جنب في هذا الطريق الواحد الذي لا طريق سواه.

العمل إلى آخر لحظة من لحظات العمر.إلى آخر خطوة من خطوات الحياة!يغرسها والقيامة تقوم هذه اللحظة.عين يقين!

وليس هذا هو الدرس الوحيد الذي نتعلمه من هذا الحديث العجيب.فلا يأس مع الحياة!والعمل في الأرض لاينبغي أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة!

فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة،حين تنقطع الحياة الدنيا كلها،حين لاتكون هناك ثمرة من العمل..حتى عندئذ لايكف الناس عن العمل وعن التطلع للمستقبل،ومن كان في يده فسيلة فليغرسها!

وبمثل هذه الروح الجبارة تعمر الأرض حقاً وتشيد فيها المدنيات والحضارات.

كل مافي الأمر أن الإسلام وهو يدعو لتعمير الأرض،والعمل في سبيلها،لاينحرف بالأفكار والمشاعر عن طريق الله وطريق الآخرة،لأنه لايفصل بين الدنيا والآخرة،ولابين الحياة العملية و”الأخلاق”.

يقول الأستاذ البهي الخولي :
” إن الله سبحانه وتعالى استودع الأرض خيرات وثروات بغير حصر،واستودع الإنسان من أسرار المواهب والملكات، ولا نبالغ إذا ما قلنا أن مهمة الإعمار هي المبرر الوحيد لإصباغ صفة الخلافة على الإنسان واعتباره “مخلوق الله المختار ” وأن الذي يحق له البقاء في الأرض هو الصالح لعمارتها {أنَّ الأرضَ يرثُها عباديَ الصالحون} “ [الانبياء 105].
والاستخلاف بالقياس الزمني استخلاف مؤقت {ولكُم في الأرضِ مُستَقرٌّ ومَتاعٌ إلى حين} [البقرة 36] ومعنى هذا أن البيئة بمواردها الطبيعية المختلفة لا تعتبر مُلكاً خالصاً لجيل من الأجيال يتصرف فيها كيفما يشاء،ولا يستطيع أيّ جيل أن يدَّعي لنفسه هذا الحق، وإنّما هي ميراث البشرية الدائم تتوارثه الأجيال المتعاقبة والمتلاحقة، وهذا يعني المحافظة على البيئة دون تدمير أو استنزاف لثرواتها لنورثها للأجيال القادمة، بيئة سليمة قادرة على العطاء كما خلقها الله عز وجل، ومن هذا المنطلق ينهى الإسلام ويمنع سوء استغلال موارد البيئة واستنزافها لحساب جيل معين على حساب الأجيال القادمة، وهذه مخالفة صريحة لمعنى الاستخلاف .
والاستخلاف والتسخير نعمة من نعم الله على الإنسان، وكل نعمة ينبغي أن تقابل بالشكر، فالشكر يزيد النعم ويجعل فيها الاستمرارية {وإذ تأذّنَ ربُّكُم لئن شَكرتُم لأزيدَنَّكُم ولئن كَفرتُم إنَّ عذابي لَشديد}[إبراهيم7] ، والكفران بالنعمة يستوجب حرمانها {فَكَفرتْ بأنعُمِ الله فأذاقَها اللهُ لِباسَ الجُوعِ والخوفِ بما كانوا يصنعون} [ النحل 112].
نظافة البيئة:

يقول الأستاذ الدكتور مرشد خاطر (أحد أعداد مجلةالمجمع العلمي بدمشق ـ مقال بعنوان:هواء المدن):

“إن علم الصحة أس من الأسس الراسخة المتينة التي يشيد عليها هذا البناء البشري وأنه إذا انحصر في فرد أو أفراد لا يكون مفيداً نافعاً،فلو رعى أحد أفراد أسرة مؤلفة من أربعة أشخاص مثلاً علم الصحة رعاية دقيقة وحفظ دقائقه حفظاً لا تشوبه شائبة ولم يحفظ الثلاثة الباقوم منه إلا اسمه لما حصلت الغاية المرادة من هذا الفن  ولما كسب ذلك المحافظ من حفاظه ما كان يؤمل الحصول عليه لأن ما يصلحه في نفسه ومحيطه بسيره في سبل هذا الفن الأساسي يفسده الثلاثة الآخرون باهمالهم .كيف لا وهم يسكنون معاً مسكناً واحداً ويغتذون بطعام واحد ويشربون ماءً واحداً.

ولا تختلف حالة الأسرة هذه عن حالة كل مجتمع إنساني ولاسيما عن المدن حيث الازدحام كبير،فإن علم الصحة لا يكون مفيداً إلا إذا رعاه بعض السكان وأهمله بعضهم أو إذا سار بموجبه الشعب جميعه ولم تسر الحكومة فإن من القواعد الصحية ما هو عام يترتب على الحكومة وضع قوانينه ومراعاتها.فكيف يؤمل لمدينة من المدن هواءً جيداً إذا لم تكن طرقها العامة مخططة كما تقتضيه قواعد علم الصحة ولم تكن عريضة متسعة يتجدد الهواء فيها وترسل إليها الشمس أشعتها الذهبية متلفةً ما يعلق بها من الجراثيم العديدة أو لم تكن منازلها مبنيةً على الطراز الحديث مرعية فيها شروط مهب الأرياح وشروق الشمس وغروبها وسعة النوافذ ووجهتها .بل كيف ترجو لمدينة هواءً جيداً إذا لم تكن مياهها شروبة خالية من المواد المضرة بالصحة العامة وعارية من الجراثيم المرضية أو إذا لم تكن غزيرة كافية للحاجات العامة،بل كيف نرجو لمدينة حظاً من سلامة الصحة العامة فيها إذا لم تكن المفرزات التي تفرزها أجساد سكان تلك المدينة من بشر وحيوان مسوقة في قنوات محكمة لا تنبعث منها الروائح النتنة ولا تتدفق منها على سطح الأرض الأقذار الكريهة الرائحة ولا تتسرب من جدرانها في مجاري الماء الشرب السائرة معها جنباً إلى جنب أو في الآبار الواقعة في نقطة منخفضة من الرض اختمارات قتالة تلوث المياه وتميت الألولف.بل إذا لم تنقل بقايا المواد الغذائية التي تملأ الطرق العامة نقلاً سريعاً وحسناً دون أن يتلوث بها المارون.

ويتابع الأستاذ مرشد خاطر:”إن العلم الصحيح إذاً واسطة من الوسائط الأساسية إذا لم أقل الواسطة الوحيدة التي ترشد الإنسان إلى العادات الحسنة ،ولما كان علم الصحة علماً يتوقف على معرفته التفريق بين العادات الصحية النافعة والمضرة كان تعلمه والوقوف عليه شرطاً لازماً في إصلاح عاداتنل القديمة المضرة التي لا تزال مستولية على السواد الأعظم من بني وطننا وليس مصدرها إلا الجهل.فلو عرف الخباز مثلاً أن ماء النهر مضر حامل لجراثيم مرضية كثيرة منها الوباء الأصفر والتيفية والزحار وغيرها ,ان درجة الحرارة التي يبلغ إليها لب الخبز لا تكفي لقتل هذه الجراثيم،وأنه يجني جناية لا تغتفر إذا عجن عجينه بماء النهر لأقلع عن هذه العادة،ولو عرف الأولاد والآباء والأمهات أن ماء النهر لا يجب أن يشرب للسبب نفسه لما شربوه،ولو عرف الحلاق أن داء الأفرنج وكثيراً من الأمراض الجلدية تنقل بالموسى والمقص وآلات الحلاقة وتعود أن يطهر آلاته بعد كل حلاقة لوقى كثيرين من هذه الأمراض،ولو عرف أصحاب المطاعم العامة أن أمراضاً كثيرة تنتقل بأوانيهم وتعودوا تعقيمها حسب الفن لما تفشى السل هذا التفشي الهائل”.انتهى كلام الأستاذ مرشد خاطر.

الإسلام دين الفطرة،وكل مايتناسب مع الفطرة هو في مصلحة الناس والعباد ، وهو يحافظ على الحقوق الفردية،والحقوق العامة للناس، ومن هذه الحقوق حق الطريق، وليس لأحد حق منفرد فيه بل هو حق عام للجميع ، فلابد من حمايته من عبث العابثين،واستهتار المستهترين .
يأمرالإسلام بنظافة المساكن والشوارع وأرجاء المدينة، فيمنع القاء القمامة ، أو تجميعها في البيوت، أو تركها في الشوارع .
في الحديث الذي رواه الترمذي عن سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن الله تعالى طيب يحب الطيب،نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم،جواد يحب الجود فنظفوا أفنيتكم،ولا تشبهوا باليهود “. [قال الترمذي حديث حسن ]. والفناء : هو المكان أو الساحة أوالارض القريبة أوالمحيطة بالسكن .
كما يأمر الإسلام المسلمين إذا وجدوا أي شئ ملقى على الأرض أن يزيحوه ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :” من سمَّى ورفع حجراً أو شجراً أو عظماً من طريق الناس مشى وقد زحزح نفسه عن النار ” [رواه مسلم والنسائي] . وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد ولا تدفن ” [رواه مسلم والبخاري والامام احمد ].
(والنخاعة : البزقة التي تخرج من أصل الفم ، أما النخامة فهي البزقة التي تخرج من أقصى الحلق مما يلي الصدر) .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :” من آذى المسلمين في طريقهم وجبت عليه لعنتهم “[ رواه مسلم ].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :” البصق على الأرض خطيئة وكفارتها ردمها [رواه مسلم ]، ويقول صلى الله عليه وسلم :”الإيمان بضع وسبعون أو بضعٌ وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبةٌ من الإيمان .[ رواه مسلم وابن ماجة والامام احمد] .وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” كلُّ سُلامى من الناس عليه صدقة كلَّ يومٍ تطلع فيه الشمس، قال : تعدل بين الإثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، قال : والكلمة الطيبة صدقة وكلُّ خطوة تمشيها الى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ” .[رواه الترمذي وابن ماجة] .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضَّلال لك صدقة، وبصرك للرجل الردئ البصر لك صدقة ، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة” .[ رواه الترمذي ].
وعن أبو برزة قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم علّمني شيئاَ أنتفع به قال: “اعزل الأذى عن طريق المسلمين “. [رواه الترمذي] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “كان على الطريق غصن شجرة يؤذي الناس فأماطها رجل فأُدخل الجنة” .[ رواه ابن ماجة ].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أربعون خَصلة أعلاهنّ منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة “قال حسان فعددنا ما دون منيحة العنز من ردِّ السلام وتشميت العاطس وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة .[رواه البخاري وابو داود].

يقول الأستاذ الدكتور مرشد خاطر :”إن مفرزات الإنسان والحيوان هي ما تطرحه المثانة أو الأنبوب الهضمي من البول أو المواد الغائطة وإن لكل من مفرزات الإنسان والحيوان ضرراً لا ينكر .فبول الناقه من الحمة التيفية مثلاً يحتوي على جراثيم المرض لفترة طويلة بعد الشفاء،وبول المسلولين وخاصة في حالات سل الجهاز البولي يكون مليئاً بعصيا كوخ أي جراثيم العصية السلية.وبول المصاب بالبلهارزيا وهو من الأمراض المنتشرة وخاصة في مصر يحتوي على كميات كبيرة من بيوض هذه الدودة وبول المصابين بالسيلان وهو من الأمراض المنتقلة بالعدوى الجنسية يحتوي كميات كبيرة من المكورات البنية وهي العامل الممرض لهذا الداء .فإذا أفرز ذلك البول في الطقات العامة بقيت تلك العوامل المرضية بعد جفافه ملقاة في الشوارع فتنقل بالهواء متى نفخت الريح أو بأحذية المارين إلى المساكن وتنقل معها العدوى.

وليس لبول المرضى فقط الضرر الذي أوضحته ولكن بول الأصحاء أيضاً مضر لأنه بعد أن يختمر ينشر في الهواء رائحة نشادرية تخرش الأنوف وتضر الضرر الجسيم.

وأما المواد الغائطة فإن ضررها يفوق ضرر البول لأنها عدا رائحتها الكريهة تحتوي على جراثيم عديدة كجراثيم الحمى التيفية وشبه التيفية والزحار والسل وكثير غيرها من الأمراض القتالة ولا سيما الوباء الأصفر.ولا تحتوي المواد الغائطة على الجراثيم المرضية فقط بل فيها كثير من بيوض الديدان ومنها الشريطية الوحيدة  والأسكاريد والانكلستوما وغيرها من الديدان.

وأما مفرزات الحيوانات فهي أشدّ ضرراً من مفرزات الإنسان لأنه عدا الأضرار التي ذكرتها تنقل مرضين من أشد الأمراض وطأةً وخطراً وهما:الكزاز الذي ينتقل بأقذار الحيوانات جميعها والكيس الدودي (الكيسة المائية)الذي سببه أقذار الكلاب لأن هذه الحيوانات الأخيرة تحمل في أمعائها دودة شبيهة بالشريطية الوحيدة في الإنسان وتسمى شريطة المكورات المقنفذة،فمتى طرحها الكلب في الأزقة تصبح بيوضها حرة وتنتقل إلى الإنسان بالماء أو إلى الأولاد بملاعبتهم للكلاب ولا سيما في أثناء تناول الطعام وتولد في الكبد أو الطحال أو الرئة أو الخلب أكياساً كبيرة تستدعي عملية جراحية لا تخلو من الخطر.

وأما بقايا المواد الغذائية وهي فضالات المطابخ فإنها خليط من المواد الحيوانية والنباتية والمعدنية قابل للاختمار وسريع التفسخ .فمتى اختمرت هذه الفضلات واختمارها سهل لا يستغرق إلا أياماً قلائل انتشرت في الهواء روائح نتنة وغازات مضرة بالصحة العامة .ولهذا يترتب علينا ألا نبقي هذه الفضلات مدة طويلة في البيوت كي تختمر فتضر،وألا نلقيها على الطرق العامة مبعثرة فنلوثها بل يجب أن تحصر في صناديق مقفلة وتوضع على الرصيف ثم تنقل صبيحة كل يوم إلى خارج البلدة”.

كما حض الإسلام وكذلت تعاليم الأطباء العرب ومنذ القديم على ما يسمى”الصحة الاجتماعية”.

يقول الأستاذ عادل البكري في مقال له بعنوان”الطب الوقائي عند العرب” نشره في أحد أعداد مجلة المجمع العلمي في دمشق:

“ويقصد بالصحة الاجتماعية المحافظة على صحة المجتمع عامة من الأمراض.وكان العرب يفرضون رقابة شديدة على الأسواق والمحلات العامة وحوانيت الأغذية ويوكلون هذه المراقبة الصارمة إلى “المُحتسب”،ويدعون العمل الذي يقوم به بالحسبة،وهي إلزام أصحاب الصنائع بكفّ الأذى عن الناس واتباع النظافة وعدم الغش.ومن ذلك ما يذكره ابن عبدون الأندلسي من أنهم يولون العناية بنظافة الطرق،ويمنعون الناس من طرح الأوساخ أو إراقة الماء فيها،ويمنعون الصباغين من عملهم في الأسواق والطرق الضيقة لئلا يتلوث لباس المارة.

ومنها أيضاً مراقبة الطحانين وإلزامهم بغربلة القمح وتنقيته قبل الطحن،ومراقبة الخبازين وأن لا يعجن أحدهم إلا وهو ملثم لئلا يتطاير من فمه شىء إذا عطس أو تكلم.وأن يشد على جبينه عصتبة بيضاء كي لا يعرق فيقطر منه شىء فوق العجين،وأن يحلق شعر ذراعيه حتى لا يسقط منه شىء فيه،وإذا عجن في النهار فليكن عنده إنسان بيده مِذبّة يطرد عنه الذباب.

ومنها كذلك مراقبة الجزارين ومنعهم من الذبح على أبواب دكاكينهم بل في مذبح خاص،وكانوا ينهون الأبخر(وهو ذو الرائحة الكريهة في الفم) من النفخ في الشاة عند سلخها.ويأمرونهم بأن يعزلوا لحوم الماعز عن لحوم الأغنام،وأن يخضبوا لحم الماعز بالزعفران ليميزوه عن غيره،وأن تكون أذناب الماعز معلقة على لحومها عند البيع.ويأمرونهم إذا فرغ أحدهم من بيع اللحم أن يأخذ ملحاً مسحوقاً وينشره على القرمة التي يقصب عليها اللحم لئلا تتعفن أو تدّود.وكانوا يمنعونهم من بيع لحم الميتة أو المريضة أو اللحم المتغير اللون.وإن شك المحتسب في الحيوان هل هو ميتة أو مذبوح اختبر اللحم بالماء فإن طفى فهو ميتة وإن رسب فهو مذبوح.ونظراً لما لاحظوه من أن البقر والدجاج يأكل الأقذار فقد نهوا عن أكل لحمه أو شرب لبنه إلا بعد حبسه وإطعامه طعاماً طاهراً مدة حتى يطيب لحمه ولبنه.

ومنها مراقبة أصحاب حوانيت الأغذية المعروفة آنذاك كالحلوانيين والشرابيين واللّبانيين والشوائين وقلائي السمك،وأصحاب معاصر الشيرج(دهن السمسم)وكذلك السقائين،وكان عمل المحتسب إذ ذاك كما يقول الأندلسي أن يَحُدّ للسقائين موضعاً يصنعون فيه قنطرة من ألواح فيستقون منها.ولا يتسنّى لأحد أن يشاركهم فيه خوفاً من تلوث الماء،ولا أن يقترب من الموضع أحد للاغتسال روغسل الثياب.كما أنهم يمنعون بيع ثياب المرضى في الأسواق خوفاً من نشر العدوى بين الناس.

(يمكن الرجوع إلى الموضوع أيضاً في مقال العدوى بين الطب والإسلام في الموقع).
الرفق بالحيوان:
إن عالم الحيوان كعالم الإنسان له خصائصه وطبائعه وشعوره، يقول تعالى:{وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم][الأنعام38]. وقد وجّه الإسلام عنايته ورعايته ورفقه بالحيوان بحيث لانجد لهذا مثيلاً في الأديان الوضعية ولا الحضارات القديمة أو المعاصرة.
في مقال تحت عنوان الرفق بالحيوان (من أحد اعداد مجلة حضارة الإسلام أنقل الكلام بالنص) ـ :
“أقام الإسلام هدايته على أساس الرحمة المحفوفة بالحكمة، والرحمة تبعث النفوس مبعث الرفق والإحسان، والحكمة تقف بالرحمة عند حدود لو تجاوزتها انقلبت الى ضعف ورعونة،وعلى هذا الطريق الوسط جاءت الأحكام والآداب الخاصة بالتصرف في الحيوان .
أذن الإسلام في أكل الطيب من الحيوان،ونبَّه بهذا الإذن على خطأ أولئك الذين يقبضون أيديهم عن تذكيته أو أكله بدعوى الرأفة أو الزهد ،وأباح استعماله في نحو الركوب والحراثة وحمل الأثقال .
وقد امتنّ القرآن الكريم بهذه الضروب من الاستمتاع المألوف بين العقلاء فقال تعالى : {والأنعامَ خَلقها لكُم فيها دِفءٌ ومنافعُ ومنها تأكلون * ولكُم فيها جمالٌ حينَ تُريحون وحين تَسرحون* وتحمِلُ أثقالَكُم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيهِ إلا بِشِقِّ الأنفُسِ إنَّ ربَّكُم لرؤوفٌ رحيم}[النحل5 ـ 7] ،وقال تعالى : {وجعلَ لكُم من جُلودَ الأنعامِ بُيوتاً تَستَخِفُّونَها يومَ ظَعنِكُم ويومَ إقامتِكُم ومن أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها أثاثاً ومتاعاً إلى حين}[النحل80] .
امتنّ الله تعالى في كتابه العزيز بما يتخذ من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها وجلودها من الملابس والفرش،والبيوت ،وبما يتغذى به من ألبانها ولحومها ، وبما هيئت له من حمل الأثقال،وهذه المنافع من أهم ماتنتظم به حياة الإنسان .
وقال تعالى : {والخيلَ والبغالَ والحميرَ لتركبُوها وزينةً ويخلُقُ ما لا تعلمون }[النحل8]”. فذكر في هذه الآية أهم ما خلقت له الخيل والبغال والحمير من المنافع وهو الركوب، وفي الركوب راحة البدن،وسرعة الانتقال من مكان إلى مكان، والراحة من متممات الصحة وسرعة الانتقال حفظ للوقت من أن يذهب في غير جدوى .
امتنّ الله بالأنعام والخيل وما عطف عليها، ونبَّه على ما فيها من جمال وزينة ، وفي هذا ما يرشد الى أن يكون الاستمتاع بها في رفق ورعاية،فإن إرهاقها أو قلة القيام على ماتستمد منه حياتها، يجعل نفعها ضئيلاً، ويذهب بما فيها من جمال وزينة .
كان للعرب قبل الإسلام عادات تحرمهم من الإنتفاع ببعض أفراد الحيوان وفيها قوة على أن ينتفعوا بها، ومن هذا القبيل الناقة المسماة بالسائبة:وهي الناقة التي يقول فيها الرجل : إذا قدمت من سفري، أو برئت من مرضي فهي سائبة ، ويحرم ركوبها ودرّها . والوصيلة : وهي أن تلد الشاة ذكراً وأنثى فيقولون : وصلت أخاها، فلا يذبح من أجلها الذكر . والجمل المسمى بالحام : وهو الفحل الذي ينتج من صلبه عشرة أبطن، فكانوا يقولون : قد حمى ظهره، ويمتنعون من ركوبه والحمل عليه .والبحيرة : وهي الناقة التي تنتج خمسة أبطن آخرها ذكر ، فإنهم كانوا يبحرون أذنها أي يشقونها، ثم يحرمون ركوبها ودرها .
ثم جاء الإسلام، فلم ير من الحكمة تعطيل الحيوان وهو صالح لأن ينتفع منه ، فنهى عن هذا التعطيل الناشئ عن سفاهة الرأي فقال تعالى : {ما جعلَ اللهُ من بَحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وَصيلةٍ ولا حَامٍ ولكنَّ الذين كفروا يفترونَ على الله الكَذِبَ وأكثرهم لايعقلون}[المائدة103 ].
وكان للعرب عادات يسومون فيها الحيوان سوء العذاب، ومن هذه العادات ما يفعلونه لموت كريم القوم، إذ يعقلون ناقته أو بعيره عند القبر ويتركونها في حفرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت . ومن هذا الباب شقّهم لآذان الأنعام ـ كما في البحيرة ـ وهو ما أشار الى قبحه القرآن الكريم ،إذ جعله مما يأمر به الشيطان، فقال تعالى : { لعنهُ الله وقالَ لأَتَّخِذَنَّ من عِبادِكَ نصيباً مفروضاً * ولأُضِلّنّهُم ولُأمَنِّينَّهُم ولآمُرَنَّهُم فَليُبَتِّكُنَّ آذانَ الانعامِ ولآمُرنَّهُم فلَيُغيِّرُنَّ خلقَ الله}[النساء118 ـ119].
ما زال الحيوان كسائر الامتعة تحت يد مالكه يفعل فيه كيف يشاء،وإذا ناله رفق فمن ناحية عاطفة الإنسان على ما يملك لتطول مدة انتفاعه به، ولكن الإسلام أرشد الى أن الحيوان في نفسه حقيق بالعطف ، فغرس له في القلوب عطفا عاما واستدعى له الرحمة حتى من قوم لا ينتفعون أو لا يرجون أن ينتفعوا به في حال وجعل الرفق به من قبيل الحسنات التي تذهب السيئات،وتنال بها المثوبة عند الله
أذن الإسلام في قتل الحيوان المُؤذي كالكلب العقور والفارة،وأمر بالإحسان في القتل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :” إن الله كتب الإحسان على كل شئ ، فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة ” وأذن في ذبح الحيوان للإستمتاع بالطيب من لحومه ، فقال صلى الله عليه وسلم :وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة،وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته “.
قد يخطر على البال أنه متى أذن في قتل الحيوان أو ذبحه فللإنسان أن يتخذ لازهاق روحه ما شاء من الطرق أو الوسائل، فقصد الشارع الحكيم إلى دفع هذا الخاطر وإرشاد الناس الى اتخاذ أحسن الطرق في القتل أو الذبح ، فلا يجوز إحراق ما أذن في قتله أو التمثيل به ، ويجب إرهاف آلة الذبح حتى لا يلاقي الحيوان قبل إزهاق روحه آلاماً . وقد ذكر أهل العلم آداباً اقتبسوها مما جاءت به الشريعة من أصول الرفق بالحيوان، فقال عمر رضي الله عنه :” من الإحسان للذبيحة أن لا تجر الذبيحة إلى من يذبحها “. وقال ربيعة :” من الإحسان أن لا تذبح ذبيحة وأخرى تنظر إليها ، وأن لا يصرعها بعنف “.
أباحت الشريعة صيد الحيوان بنحو الجوارح والنبال والشباك ، لينتفع منه الإنسان بما يحل الانتفاع به ، ومنعت من أن يُنصب الحيوان غرضاً ليرمى بنحو النبال . ومما نقرؤه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قوله :” لا تتخذوا شيئاً فيها الروح غرضاً [رواه مسلم ]، وفي صحيح الإمام مسلم أيضا ” مرّ ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه ،وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم ، فلما رأوا ابن عمر تفرّقوا ، فقال ابن عمر : من فعل هذا ؟ لعن الله من فعل هذا،إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا ً فيه الروح غرضاً ” .
ووردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل سقي الحيوان وإطعامه وعدَّهما من عمل الخير الذي تنال به الزلفى عند الله ، قال صلى الله عليه وسلم :” ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ” [صحيح البخاري ]. وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش ، فوجد بئراَ, فنزل فيها ، فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش،فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكره الله فغفر له، قالوا : يا رسول الله : وإن لنا في البهائم أجراً ! فقال : في كل ذات كبد رطبة أجر ” [رواه البخاري] .
(وفي رواية للبخاري ومسلم:”بينما كلب يُطيف بركيّة(بئر)قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فاستقت له به فسقته فغفر لها به).والموق:الخف.
وانظر إلى قولهم :”وإن لنا في البهائم أجراً ” تراهم كيف يستهينون بأمر الحيوان ولا يعتقدون أن الإحسان إليه يبلغ مبلغ الإحسان الى الإنسان فيستحقون عليه أجراً ، وكيف يكون حال حيوان وقع تحت يد من لا يعتقد انه سينال بالإحسان إليه ثواباً ويبقى من أجل القسوة عليه عذاباً .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :” عذبت امرأة في هرّة حبستها حتى ماتت فدخلت النار، لاهي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ،ولا هي تركتها تأكل من خَشاش الأرض “.[ رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما] . والوعيد بعقوبة النار على الأمر يدل على أنه من المحظور حظراً لا هوادة فيه ، ومن ذا يخطرعلى باله قبل هذا ان يكون لحيوان كالهرة حرمة تبلغ في الخطر أن يعاقب من ينتهكها بعذاب النار .
وقرر الفقهاء وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها، بأن يعلفها أو يرعاها بنفسه، أو يكل لغيره رعيها ولو بأجر،ولم يختلفوا في وجوب ذلك عليه، وصرح طائفة منهم بأنه يجبر عليه قضاء، فإن لم يفعل بيعت الدابة ، ولا تترك تحت يده تقاسي عذاب الجوع ، ومما نقرؤه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال :” اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة ،فاركبوها صالحة وكلوها صالحة ” [أخرجه ابو داود ].
وتُحرّم الشريعة الإساءة الى الحيوان بتحميله من الأثقال مالايطيق، وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون أن من حمَّل دابة مالايطيق حوسب عليه يوم القيامة، يُروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال لبعير له عند الموت :يا أيها البعيرلا تخاصمني الى ربك، فإني لم أكن أحمَّلك فوق طاقتك . وقال الغزالي في الحديث عن الرفق بالدابة وعدم تحميلها مالا تطيق :” والمَحمِل خارج عن حد طاقتها ، والنوم عليها يؤذيها ويثقل عليها ” .
( المحمل : شقان على البعير يحمل فيهما العديلان).
وانما يجوز الحمل على ما يطيق الحمل كالابل والبغال والحمير،ولا يجوز الحمل على مالم يخلق للحمل كالبقر، قال ابن العربي : لا خلاف في البقر انه لايجوز ان يحمل عليها .وذهب كثير من أهل العلم الى المنع من ركوبها نظراً الى أنها لا تقوى على الركوب، وإنما ينتفع بها فيما تطيقه من نحو إثارة الارض وسقي الحرث .
ومن الرفق بالدابة أن لا يركبها ثلاثة أشخاص يكون عبؤهم عليها ثقيلاً، أخرج ابن أبي شيبة عن زاذان انه راى ثلاثة على بغل، فقال :لينزل أحدكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الثالث . وأخرج الطبري عن علي رضي الله عنه أنه قال :”إذا رأيتم ثلاثة على دابة فارجموهم حتى ينزل أحدهم
ومن الرفق بالحيوان تجنب أذيته في بدنه بنحو الضرب الأليم،والإشعار الوارد في بُدن الهدي ليس إلا جرحاً في سنام البعير بنحو المبضع ، ليكون علامة أنها هدي، وأما طعن البدنة بنحو السنان حتى يتجاوز الجلد الى اللحم فانما يرتكبه الجهال،ولا يختلف العلماء في تحريمه .
ومن الرفق بالدابة أن لا يتابع السير عليها متابعة ترهقها تعباً، قال صلى الله عليه وسلم :” إذا سافرتم في الخصب فأعطوا البغل حظاً من الأرض ” وفي رواية “ولا تعدوا المنازل” [رواه مسلم وابوداود ].
ومن الفنون التي يسلكها قساة القلوب في تعذيب الحيوان تهييج بعض الحيوان على بعض، كما يفعل بين الكباش والديوك وغيرها،وهو من اللهو الذي حرمته الشريعة لما فيه من إيلام الحيوان وإتعابه في غير فائدة، وفي سنن ابي داود والترمذي :” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم .
وان شئت ان تزيد يقينا بما جاء به الاسلام من الرأفة بالحيوان فانظر الى مارواه أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله عن ابيه إذ قال :” كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرة ـ نوع من الطيور ـ معها فرخان فأخذنا فرخيها ، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش ـ ترتفع وتطل بجناحيها ـ ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها ، ورأى قرية نمل قد أحرقناها ، فقال : من أحرق هذه ؟ قلنا : نحن، قال : إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا ربّ النار ” [رواه أبو داود ].
وقد نص علماؤنا على حرمة تمكين الصبي من التلهي بالطير على وجه فيه إيلام له .انتهي المقال في مجلة حضارة الاسلام .
وجاء في مقال للعلامة الدكتور القرضاوي بعنوان : “الوقف الخيري وأثره في تاريخ الإسلام” :
“وكان هناك وقف للكلاب الضالة، وهو وقف في عدة جهات يُنفق من رَيعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، استنقاذاً لها من عذاب الجوع ، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء .ويتابع :كان في دمشق وقف لرعاية الحيوانات الأليفة التي لا تجد من يطعمها، كالقطط ، ولا سيما المصابة بالعمى منها ، مثل بيت القطط الذي كان الى عهد قريب موجودا في سوق ساروجة بدمشق، وكان فيه ما يزيد على أربع مائة قطة من الفارهات السمان “.
ويقول الدكتور الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله(من روائع حضارتنا ص113):
“يقرر الفقهاء المسلمون من أحكام الرحمة بالحيوان ما لايخطر بالبال.فهم يقررون أن النفقة على الحيوان واجبة على مالكه،فإن امتنع أجبر على بيعه أو الإنفاق عليه،أو تسييبه إلى مكان يجد فيه رزقه ومأمنه،أو ذبحه إذا كان مما يؤكل.
هذه هي مبادئ الرفق بالحيوان في حضارتنا وتشريعنا. فكيف كان الواقع التطبيقي لها؟
بينما رسول الله في بعض سفره، إذ سمع امرأة من الأنصار تلعن ناقة لها وهي تركبها،فأنكر ذلك عليها وقال:”خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة”، وأخذت الناقة وتركت تمشي في الناس لا يعرض لها أحد.[رواه مسلم].
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجل يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له:”ويلك قدها إلى الموت قوداً جميلاً.
ويتابع رحمه الله:”وأما المؤسسات الاجتماعية فقد كان للحيوان منها نصيب كبير.وحسبنا أن نجد في ثبت الأوقاق القديمة أوقافاً خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة،وأوقافاً لرعي الحيوانات المسنة العاجزة.ومنها أرض المرج الأخضر(التي يقام عليها معرض دمشق الدولي والملعب البلدي بدمشق) فإنها وقف للخيول العاجزة التي يأبى أصحابها أن ينفقوا عليها لعدم الانتفاع بها،فترعى في هذه الأرض حتى تموت.ومن أوقاف دمشق وقف للقطط تأكل منه وترعى وتنام،حتى لقد كان يجتمع في دارها المخصصة لها مئات القطط الفارهة السمينة التي يقدم لها الطعام كل يوم وهي مقيمة لا تتحرك إلا للرياضة والنزهة”.

يقول الأستاذ محمد قطب رحمه الله (قبسات من الرسول ص94):

في الحديث الشريف:”إن الله كتب الإحسان على كل شيء،فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة،وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة،وليحد أحدكم شفرتعنوليرح ذبيحته”[رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة].

يقول الأستاذ محمد قطب:”ياالله! يارحمة نبيه…!

“وليرح ذبيحته”..ومتى؟وهو مقدم على ذبحها!!وليحد شفرته حتى يجهز عليها في لحظة ويخلصها من العذاب!ألا إنها رحمة أنبياء.ألا إنها روح الله.

إنه مرتقى للمشاعر البشرية يبلغ القمة التي ليس وراءها شيء.إلا ذلك النور الأعظم الذي ينير الكون كله وينفذ إلى قلوب الكائنات.

إنها الرحمة التي لاتقف عند الأناسي من الخلق،ولايحكمها انحياز الإنسان لنفسه واعتداده بجنسه،وإنما تتعداها إلى المجال الواسع الفسيح الذي يشمل كل الأحياء في الكون.

ثم لاتقف عند هذا المدى ـ وهو في ذاته قمة عالية ـ وإنما ترتقي درجة أخرى!فالرحمة بالأحياء درجة”مفهومة” على أي حال،سواء وفق إليها القلب البشري أم انحرف عنها وشذ.

مفهوم أن تقول لي:لاتقتل هذا العصفور،فإنه ضعيف مسكين وهو جميل لطيف لايستحق القتل.

ومفهوم أن تقول لي:لاتقتل هذه الفراشة الطائرة القافزة الرشيقةنفإنك لن تستفيد شيئاً من قتلها،وهي في رشاقتها اللطيفة جمال يحسن أن تمتع به حسك وروحك.

بل مفهوم أن تقول لي:لاتقتل هذه الزهرة الجميلة ـ حتى إن كانت لاتتألم للقتل ـ فهي في غصنها هكذا جميلة..أجمل منها في يدك أو في عروة ثيابك.

كل ذلك مفهوم.والقلب البشري الطيب يمكن أن يوجه إليه في يسر،فيعتاده فيصبح من طباعه.

ولكنها درجة وراء هذا المفهوم ـ أعلى منه وأشف ـ أن أقول لك:هذه الذبيحة التي ستذبحها،والتي لن تكون حية بعد لحظات…أحسِن ذبحتها ولاتطل آلامها ولا”تمتها موتات”كما ذكر البخاري في حديث قريب من هذا الحديث(الحديث:أتريد أن تميتها موتات؟هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟).

وليرح ذبيحته!

إنها كلمة تهز الوجدان هزاً كلما تذكرها وتمثلها!و”ليرح”..الحرص على إراحة الذبيحة وهي تذبح.وهي تساق إلى العدم.إلى الفناء.إلى حيث لاتوجد ولاتشعر.

ماالقيمة “العملية”لإراحة الذبيحة هذه الثواني المعدودة التي تنتقل فيها من عالم الوجود إلى عالم الفناء؟بل ماقيمة إراحتها وأنت مقبل على إيلامها أشد ألم يمكن أن تتعرض له وهو الذبح؟

في الظاهر…لا شيء!

وفي الباطن…كل شيء!

إن الذبيحة ميتة ميتة.أرحتها أم لم ترحها.وهي متألمة متألمة،سواء قطر قلبك رحمة بها أم كنت تذبحها مجرد القلب من المشاعر متبلد الوجدان.وهي لن تلقاك بعد اليوم فتشكو إليك عنفك معها،إن كنت ممن يفهمون عن هذه الخلائقنويجاوبون ما يصدر عنها من الأحاسيس.ولن يضيرها كثيراً ـ وهي مسوقة إلى الفناء الكامل الوشيك ـ أنها ذاقت قبل ذلك بلحظة شيئاً من الغلظة أو شيئاً من الجفاء!

وإذن فالقيمة العملية بالنسبة للذبيحة…لاشيء!

ولكن القيمة”العملية”لك أنت…كل شيء!وهل ثمت شيء أكبر من أن يكون لك قلب إنسان؟!

وكذلك الشأن في أمر القتل…”فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة”.

والمسلم ـ المخاطب بهذا القول من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم ـ لايقتل إلا بالحق:{ولاتقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}[الإسراء23].{من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}[المائدة 32].وفي الحديث الشريف:”كل المسلم على المسلم حرام:دمه وعرضه وماله[رواه الشيخان].

لاشبهة إذن في أن الشخص الذي يقتله المسلم مستحق للقتل.مستحق لأنه كافر،أو مرتد،أو قاتل،أو زان محصن،أو مفسد في الأرض،مثير للفتنة،خارج على السلطان القائم على شريعة الله.

ولا شبهة في أن هذا القتل يتم بإذن من الله.بل بأمر منه وتحريض{وحرض المؤمنين}[النساء 84].

ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإحسان القتل!

ونعود إلى قصة الذبيحة فنراها تنطبق مرة أخرى على القتيل!إن القتيل لن يستفيد شيئاً من أن تحسن قتلته.فهو مفارق الدنيا.والأم واقع به ماله عنه من محيص.فيستوي أن تحسن أو لاتحسن أو أن الفارق في الحقيقة ضئيل.

فما القيمة العملية من إحسان القتل بالنسبة للقتيل؟لاشيء بطبيعة الحال!ولكن القيمة الكبرى ـ مرة أخرى ـ هي لك أنت.هي أن يكون لك قلب إنسان!”.
الإنسان وراء تدمير البيئة وفسادها :

حذر الله سبحانه في مواضع متعددة من كتابه الكريم من الفساد في الارض.والفساد البيئي جزء من هذا الفساد في الأرض.قال عز وجل:{كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}[البقرة 60].وقال تعالى:{ولا تبغِ الفساد في الأرض}[القصص 77].
يقول تعالى : {ظَهَرَ الفسادُ في البَرِّ والبحرِ بما كَسبت أيدي النَّاسِ لِيذِيقَهُم بعضَ الذي عملوا لعلَّهُم يرجعون[الروم 41 ]، وقال تعالى : {وإذا تولَّى سعى في الأرضِ لِيفُسِدَ فيها ويُهلِكَ الحرثَ والنَّسل والله لا يحبُّ الفساد}[البقرة205].يقول الإمام ابن حزم في المحلى:”فمنع الحيوان ما لا معاش له إلا به من علف أو رعي،وترك سقي شجر الثمر والزرع حتى يهلكا،هو بنص كلام الله تعالى فساد في الأرض وإهلاك للحرث والنسل،والله تعالى لا يحب هذا العمل.

،وقال تعالى : {وابتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخرة ولا تَنْسَ نصيبَكَ من الدُّنيا وأحسِن كما أحسنَ اللهُ إليك ولا تَبغِ الفسادَ في الأرضِ إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفسدين[القصص 77 ]. وقال تعالى: {وما اصَابَكُم من مُصيبةٍ فَبِما كَسبت أيدِيكُم ويعفُوا عن كثير[الشورى 34 ].
الفساد :من حيث الاصطلاح اللغوي :نقيض الصلاح .
ومن ناحية الدلالة الشرعية : الخروج عن حد الاعتدال: بالكفروالشرك والتعويق عن الإيمان، وبالمعاصي وإهلاك الحرث والنسل، وقتل النفس بغير حق، والسعي الى قطع الطريق والنهب، والبغي والتخريب والعثو والعودة الى حياة الجاهلية بكل مظاهرها كما جاء في تفسير الجلالين.
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله(كتاب أهوال يوم القيامة ص 29 ـ 30):
يقول الله عز وجل في كتابه العزيز:{إنّا عرضنا الأمانةَ على السّمواتِ والأرضِ والجبالِ فأبينَ أن يحمِلنها وأشفقنَ منها وحملها الإنسانُ إنّهُ كانَ ظِلوماً جَهولاً}[الأحزاب 72].
يقول الشيخ الشعراوي:”والأمانة هي شيء بينك وبين من ائتمنك لايقوم عليه دليل مادي..فإن قام عليه دليل مادي كإيصال مكتوب مثلاً فهو ليس أمانة…وقد أوجد الله للإنسان هذا الكون وائتمنه عليه وجعله سيده..وطلب منه أن يصلح في هذا الكون ولا يفسده…وأقل درجات الصلاح أن تبقي الشيء الصالح على صلاحه…وأحسن منها أن تزيد صلاحه..ولكن الإنسان بدلاً من أن يحمل الأمانة ويصلح في الكون أفسده..فقتل أخاه..وركبه الطمع الدنيوي..فأراد أن يستأثر بكل شيء لنفسه ويحبسه عن الآخرين..ووضع نفسه مدبراً لهذا الكون فقطع الأشجار وأباد الحيوان..واتخذ آلهة وهمية لتعينه على ظلمه…وهكذا خان الإنسان الأمانة فلم يصلح في الكون..مع أن الله وضع له منهج الإصلاح..وعرّفه له بواسطة الرسالات التي جاء بها الرسل..وكان أساس هذا الإفساد أن الإنسان خُلِق مختاراً في بعض الأمور”.
ويقول العلامة الدكتور يوسف القرضاوي :
” الفساد هنا لا يعني الفساد الخلقي،إنما يعني الفساد في المرء واضطراب الأمور والاختلال في الحياة،في البر والبحر،وفي الماء والهواء وفي التربة، هذا معنى الفساد، ولماذا حدث هذا الفساد ؟ {بما كسبت أيدي الناس} أي بأعمال الناس فسدت البيئة، وفسد البر والبحر والجو ” .
إن مكونات البيئة وعناصرها كلها مفيدة ومتوازنة مع بعضها البعض، حسب ماقدّر الله سبحانه،وطالما ظلت محتفظة بهذه الخصائص الكمية والنوعية كما خلقت فإن الأمر يبقى متوازنا، ولكن إذا ما تدخل الإنسان عمداً أو جهلاً، وأحدث فيها تغييرات كبيرة يختل توازنها،وتنقلب عناصرها من عناصر مفيدة إلى عناصر ضارة،مسببةً للمخاطر التي تهدد الحياة {والسّماءَ رَفعها ووضعَ الميزانَ* ألّا تَطغَوا في الميزان * وأقيموا الوزنَ بالقِسطِ ولا تُخسروا الميزان[الرحمن 7 ـ 9].
ويقول الدكتور العلامة يوسف القرضاوي حفظه الله(مقال وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ـ موقع القرضاوي):
“رزق الله سبحانه وتعالى واسع{وإن من شيءٍ إلاّ عِندَنا خزائِنُهُ وما نُنَزِّلهُ إلّا بقَدَرٍ معلوم} [ الحجر 21]، أي: بمقدار حاجة البشر ومصالح البشر، وكل شيء بقدر معلوم،ولا يكون تنزيله لأيّ شيء جزافاً،دون تقدير حكيم.
بعض علماء الطبيعة والرياضيات(وهو كريسي موريسون الرئيس السابق لأكاديمية العلوم بنيويورك) ذكروا في كتاب (الإنسان لا يقوم وحده) باللغة الإنجليزية، وترجم إلى العربية تحت عنوان(العلم يدعو إلى الإيمان):لابد للحياة فوق أرضنا هذه من شروط جوهرية عديدة، بحيث يصبح من المحال حسابياً أن تتوافر كلها بالروابط الواجبة،بمجرد المصادفة على أيّ أرض،في أيّ وقت. لذلك لابد أن يكون في الطبيعة نوع من التوجيه السديد. وإذا كان هذا صحيحاً، فلابد أن يكون هناك هدف..
تلك الحزمة من الكون التي نسميها بالكرة الأرضية، إنها جسم لا أهمية له في نظر الفلك،ومع ذلك يمكن القول بأنها أهم جسم حتى الآن.
ويجب أن نفرض أن الكرة الأرضية مكونة من بعض العناصر التي توجد في الشمس،لا في أيّ كوكب آخر،وهذه العناصر مقسّمة على الكرة الأرضية بنسب معيّنة ,قد أمكن التحقق منها لدرجة مقبولة فيما يتعلق بالسطح.
وقد حولت جملة الكرة الأرضية إلى أقسام دائمة ،وحدود حجمها،وسرعتها في مدارها حول الشمس هي ثابتة للغاية،ودورانها على محورها قد حدد بالضبط،لدرجة أن اختلاف ثانية واحدة في مدى قرن من الزمان يمكن أن يقلب التقديرات الفلكية.
ولو أن حجم الأرض كان أكبر مما هو عليه، أو أصغر،أو لو أن سرعتها مختلفة عما هي عليه،لكانت أبعد أو أقرب من الشمس مما هي،ولكانت هذه الحالة ذات أثر هائل في الحياة من كل نوع،بما فيها حياة الإنسان.وكان هذا الاثر يبلغ من القوة، بحيث إن الكرة الأرضية لو كانت اختلفت من هذه الناحية أو تلك إلى أيّة درجة ملحوظة، لما أمكن وجود الحياة فوقها.
ومن بين كلِّ الكواكب السيارة، نجد أن الكرة الأرضية فيما نعلم الآن،هي الكوكب الوحيد الذي كانت صلته بالشمس سبباً في جعل حياتنا ممكنا .
وتدور الكرة الأرضية حول محورها مرّة كل أربع وعشرين ساعة،أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة،والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة ميل فقط في الساعة، ولم لا؟عندئذ يكون نهارنا وليلنا أطول مما هو الآن عشر مرات،وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتتنا في كل نهار،وفي الليل قد يتجمد كل نبت على الأرض.
إن الشمس التي هي مصدر كل حياة، تبلغ درجة حرارة مسطحها 12000 درجة فهرنهايت،وكرتنا الأرضية بعيدة عنها إلى حد يكفي لأن تمدنا هذه (النار الهائلة)بالدفء الكافي،لا بأكثر منه.وتلك المسافة ثابتة بشكل عجيب،وكان تغيرها في خلال ملايين السنين من القلة،بحيث أمكن استمرار الحياة كما عرفناها.ولو أن درجة الحرارة على الكرة الأرضية قد زادت بمعدل خمسين درجة في سنة واحدة، فإن كلّ نبت يموت،ويموت معه الإنسان حرقاً أو تجمدا”.
ويقول الدكتور زغلول النجار حفظه الله(مقال وفي الأرض آيات للموقنين):
“يقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بحوالي مائة وخمسين مليوناً من الكيلومترات،وقد استخدمت هذه المسافة كوحدة فلكية للقياس في فسحة الكون،ولما كانت كمية الطاقة التي تصل من الشمس إلى كل كوكب في مجموعتها تتناسب تناسباً عكسياً مع بعد الكوكب عن الشمس،وكذلك تتناسب سرعة جريه في مداره حولها، بينما يتناسب طول سنة الكوكب تناسباً طردياً مع بعده عنها(وسنة الكوكب هي المدة التي يستغرقها في إتمام دورة كاملة حول الشمس)،اتضحت لناالحكمة البالغة من تحديد بعد الأرض عن الشمس،فقد قُدّرت الطاقة التي تشعها الشمس من كل سنتميتر مربع على سطحها بحوالي عشرة أحصنة ميكانيكية،ولا يصل الأرض سوى جزء واحد من بليوني جزء من هذه الطاقة الهائلة، وهو القدر المناسب لنوعية الحياة الأرضية،ولتنشيط القوى الخارجية التي تعمل على تسوية سطح الأرض، وتكوين التربة،وتحريك دورة المياه حول الأرض،وغير ذلك من الأنشطة الأرضية.
ولطاقة الشمس الإشعاعية صور عديدة أهمها:الضوء الأبيض، والأشعة تحت الحمراء،والأشعة السينية،والأشعة فوق البنفسجية، ونسب هذه المكونات للطاقة الشمسية ثابتة فيما بينها، وإن اختلفت كمية الإشعاع الساقط علة أجزاء الأرض المختلفة بإختلاف كل من الزمان والمكان.
وحزمة الضوء الابيض:تتكون من الأطياف السبعة(الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي) وتقد نسبتها في الأشعة الشمسية التي تصل إلى الأرض بحوالي 38 بالمائة، ولها أهمية بالغة في حياة كل من النبات والحيوان والإنسان،وتبلغ أقصى مدى عند منتصف النهار عموماًنوعند منتصف نهار الصيف خصوصاً،لأن قوة إنارة أشعة الشمس لسطح الأرض تبلغ في الصيف ضعفي ما تبلغه في الشتاء.
أما الأشعة تحت الحمراء:فتقد نسبتها في أشعة الشمس التي تصل إلى الأرض بحوالي 53 بالمائة، ولها دورها المهم في تدفئة الأرض وما عليها من صور الحياة، وفي كافة العمليات الكيميائية التي تتم على سطح الأرض وفي غلافها الجوي،الذي يردّث عنا قدراً هائلاً من حرارة الشمس، فكثافة الإشعاع الشمسي والتي تقدر بحوالي 2 سعر حراري على كل سنتمتر مربع من جو الأرض في المتوسط،يتشتت جزء منها بواسطة جزيئات الهواء وقطرات الماء وهباءات الغبار السابحة في جو الأرض، ويمتص جزء آخر بواسطة كل من غاز الأوزون وبخار الماء، ومتوسط درجة الحرارة على سطح الأرض يقد بحوالي عشرين درجة مئوية وإن تراوحت بين حوالي 74 درجة مئوية تحت الصفر في المناطق القطبية المتجمدة و55 درجة مئوية في الظل في أشد المناطق والأيام قيظاً.
أماالأشعة فوق البنفسجية:فتقدر نسبتها بحوالي 9 بالمائة من مجموع أشعة الشمس التي تصل إلى الأرض، وذلك لأن غالبيتها تمتص أو ترد بفعل كل من النطاق المتأين ونطاق الأوزون الذي جعلهما ربنا تبارك وتعالى من نطق الحماية على الأرض، ويقد ما يصل إلى الأرض من طاقة الشمس بحوالي ثلاثة عشر مليون حصانا ميكانيكياً على كل كيلو متر مربع من سطح الأرض في كل ثانية،وتقد قيمته ببلايين الدولارات مما لاقبل للبشرية كلها بتحمله أو وفاء شكر الله عليه.
ولو كانت الأرض أقرب قليلاً إلى الشمس لكانت كمية الطاقة التي تصلهاكافية لإحراق كافة صور الحياة على سطحها،ولتبخير مياهها،ولخلخلة غلافها الغازي.
ولذلك فإنه من الواضح أن بعد الأرض عن الشمس قد قدّره ربنا تبارك وتعالى بدقة بالغة تسمح للأرض بتلقي قدر من طاقة الشمس يتناسب تماماً مع حاجات جميع الكائنات الحية على سطحها،وفي كلمن مياهها، وهوائها بغير زيادة أو نقصان إلا في الحدود الموائمة لطبيعة الحياة الأرضية في مختلف فصول السنة.
فلو كانت الأرض على مسافة من الشمس تقدر بنصف بعدها الحالي،لزادت كمية الطاقة التي تتلقاها أرضنا منها إلى أربعة أمثال كميتها الحالية ولأدى ذلك إلى تبخير الماء وخلخلة الهواء واحتراق جميع صور الحياة على سطحها!!!
ولو كانت الأرض على ضعف بعدها الحالي من الشمس لنقصت كمية الطاقة التي تتلقاها إلى ربع كميتها الحالية، وبالتالي لتجمدت جميع ضور الحياة واندثرت بالكامل.
أبعاد الأرض:
يقدر حجم الأرض بحوالي مليون كيلو متر مكعب،ويقدر متوسط كثافتها بحوالي 5,52 جرام للسنتيمتر المكعب،وعلى ذلك فإن كتلتها تقدر بحوالي الستة آلاف مليون مليون مليون طن،ومن الواضح أن هذه الأبعاد قد حدّدها ربنا تبارك وتعالى بدقة وحكمة بالغتين، فلو كانت الأرض أصغر قليلاً لما كان في مقدورها الاحتفاظ بأغلفتها الغازية،والمائية،وبالتالي لاستحالت الحياة الأرضية،ولبلغت درجة الحرارة على سطحها مبلغاً يحول دون وجود أي شكل من أشكال الحياة الأرضية، وذلك لأن الغلاف الغازي للأرض به من نطق الحماية ما لا يمكن للحياة أن توجد في غيبتها،فهو يرد عنا جزءاً كبيراً من حرارة الشمس وأشعتها المهلكة،كما يرد عنا قدراً هائلاً من الأشعة الكونية القاتلة،وتحترق فيه بالاحتكاك بمادته أجرام الشهب وأغلب مادة النيازكنوهي تهطل على الأرض كحبات المطر في كل يوم.
ويتعلق طول كل من نهار وليل الأرض وطول سنتها،بكل من بعد الأرض عن الشمس،وبأبعادها كوكب يدور حول محوره، ويجري في مدار ثابت حولها.
فلو كانت سرعة دوران الأرض حول محورها أمام الشمس أعلى من سرعتها الحالية لقصر طول اليوم الأرضي(بنهاره وليله) قصراً مخلاً، ولو كانت أبطأ من سرعتها الحالية لطال يوم الأرض طولاً مخلاً،وفي كلتا الحالتين يختل نظام الحياة الأرضية اختلالاً قد يؤدي إلى إفناء الحياة على سطح الأرض بالكامل،إن لم يكن قد أدى إلى إفناء الأرض ككوكب إفناءً تاماًن وذلك لأن قصر اليوم الأرضي أو استطالته يخل إخلالاً كبيراً بتوزيع طاقة الشمس على المساحة المحددة من الأرض،وبالتالي يخل بجميع العمليات الحياتية من مثل النوم واليقظة ،والتنفس والنتح وغيرها،كما يخلّ بجميع الأنشطة المناخية من مثل الدفء والبرودة، والجفاف والرطوبة، وحركة الرياح والأعاصير والأمواج ،وعمليات التعرية المختلفة، ودورة المياه حول الأرض وغيرها من أنشطة.كذلك فلو لم تكن الأرض مائلة بمحورها على مستوى مدار الشمس ما تبادلت الفصول،وإذا لم تتبادل الفصول اختل نظام الحياة على الارض.
وبالإضافة إلى ذلك فإن تحديد مدار الأرض حول الشمس بشكله البيضاني، وتحديد وضع الأرض فيه قرباً وبعداً على مسافات منضبطة من الشمس يلعب دوراً مهماً في ضبط كمية الطاقة الشمسية الواصلة إلى كل جزء من أجزاء الأرض وهو من أهم العوامل لجعلها صالحة لنمط الحياة المزدهرة على سطحها، وهذا كله ناتج عن الإتزان الدقيق بين كل من القوة النابذة المركزية التي دفعت بالأرض إلى خارج نطاق الشمس، وشدة جاذبية الشمس لها،ولو اختل هذا الاتزان بأقل قدر ممكن فإنه يعرض الأرض إما للإبتلاع بواسطة الشمس حيث درجة حرارة قلبها تزيد عن خمسة عشر مليوناً من الدرجات المطلقة،أو تعرضها للإنفلات من عقال جاذبية الشمس فتضيع في فسحة الكون المترامية فتتجمد بمن عليها وما عليها،أو تحرق بواسطة الأشعة الكونية،أو تصطدم بجرم آخر،أو تبتلع بواسطة نجم من النجوم،والكون من حولنا ملئ بالمخاطر التي لا يعلم مداها إلا الله تعالى، والتي لا يحفظنا منها إلا رحمته سبحانه وتعالى،ويتمثل جانب من جوانب رحمة الله بنا في عدد من السنين المحددة التي تحكم الأرض كما تحكم جميع أجرام السماء في حركة دقيقة دائبة لا تتوقف ولا تتخلف حتى يرث الله الارض ومن عليها.
ثالثاً: بنية الأرض:
أثبتت دراسات الأرض أنها تنبني من عدة نطق محددة حول كرة مصمتة من الحديد والنيكل تعرف بإسم لبّ الأرض الصلب الداخلي.ولهذا اللب الصلب كما لكل نطاق من نطق الأرض دوره في جعل هذا الكوكب صالحاً للعمران بالحياة الأرضية في جميع صورها.
وتقسم النطق الداخلية للأرض على أساس من تركيبها الكيميائي أو على أساس من صفاتها الميكانيكية باختلافات بسيطة بين العلماء، وتترتب بنية الارض من الداخل إلى الخارج على النحو التالي:
1 ـ لبّ الأرض الصلب الداخلي:
وهو عبارة عن نواة صلبة من الحديد 90 بالمائة وبعض النيكل 9 بالمائة مع قليل من العناصر الخفيفة من مثل الفوسفور والكربون والسيليكون، وهو نفس تركيب النيازك الحديدية تقريباً،ويبلغ قطر هذه النواة حوالي 2402 كيلو متر، ويمتد نصف قطرها من مركزها على عمق 6371 كيلومتلا إلى عمق 5170 كيلومتر. ولما كانت كثافة الأرض في مجموعها تقدر بحوالي 52’5 جرام للسنتمر مكعب، بينما تختلف كثافة قشرة الأرض بين 2،7 جرام للسنتمر مكعب، وحوالي 3 جرامات للسنتمر مكعب، فإن الاستنتاج المنطقي يؤدي إلى أن كثافة لب الأرض لابد وأن تتراوح بين 10 و13،5 جرام للسنتمر مكعب.
2 ـ نطاق لب الأرض السائل الخارجي:
وهو نطاق سائل يحيط باللب الصلب،وله نفس تركيبه الكيميائي تقريباً، وإن كانت مادته منصهرة،ويبلغ سمكه 2275 كيلومتراً (من عمق 5170 كيلومترا إلى عمق 2885 كيلومتراً تحت سطح الارض)،ويفصل هذا النطاق عن اللب الصلب منطقة انتقالية يبلغ سمكها 450 كيلومترا تمثل بدايات عملية الإنصهار وعلى ذلك فهي شبه منصهرة (وتمتد من عمق 5170كيلومتراً إلى عمق 4720 كيلومتراً تحت سطح الأرض)ويكون كل من لب الأرض الصلب ولبها السائل حوالي 31 بالمائة من كتلتها.
3 ـ 4 ـ 5 نطق وشاح الأرض:
يحيط وشاح الأرض بلبها السائل،ويبلغ سمكه حوالي 2765 كيلومتراً، ويفصله إلى ثلاثة نطق مميزة مستويان من مستويات انقطاع الموجات الاهتزازية الناتجة عن الزلازل.
6 ـ 7 الغلاف الصخري للأرض:
ويتراوح سمكه بين 65 كم تحت قيعان البحار والمحيطات، و120 كم تحت القارات،ويقسمه خط انقطاع الموجات الاهتزازية المسمى باسم الموهو، إلى قشرة الارض وإلى ما تحت قشرة الأرض.
وكذلك فإن للأرض مجالاً مغناطيسياً ثنائي القطبية،يعتقد أن له صلة بلب الأرض الصلب وحركة إطاره السائل من حوله، ويتولد المجال المغناطيسي للأرض كما يتولد لأي جسم آخر من حركةالمكونات فيها وفيه،وذلك لأن الجسيمات الأولية للمادة(وهي في غالبيتها مشحونة بالكهرباء)تتحرك سواء كانت طليقة أو مرتبطة في داخل ذرات المادة، وهي حينما تتحرك تولد مجالاً مغناطيسياً، والمجال المغناطيسي لأية نقطة في فسحة الكون يمثل بمحصله اتجاه تمتد من القطب المغناطيسي الجنوبي للمادة إلى قطبها الشمالي في حركة معاكسة لإتجاه عقرب الساعة ومماثلة لحركة الطواف حول الكعبة المشرفة.
والمجال المغناطيسي للأرض كوّن لها بإرادة الله تعالى غلافاً مغناطيسياً يعرف باسم النطاق المغناطيسي للأرض وهو يلعب دوراً مهماً في حماية الأرض من الأشعة الكونية بتحكمه في حركة الجسيمات المشحونة القادمة إلينا من فسحة الكون فيجعلها تدور من أحد قطبي الأرض المغناطيسيين إلى الآخر دون الدخول إلى المستويات المنخفضة من غلافها الغازي.
ويمتد المجال المغناطيسي للأرض إلى مسافة تقدر بخمسين ألف كيلومتر فوق سطحها، وتحميها من وابل الأشعة الكونية المتساقطة باتجاهها في كل لحظة،ولولا هذه الحماية الربانية لهلكنا وهلكت جميع صور الحياة من حولنا.
والجبال لعبت ولا تزال تلعب دوراً رئيسياً في تثبيت الغلاف الصخري للأرض ولولا هذا التثبيت ما تكونت التربة،ولا دارت دورة المياه ،ولا خزنت المياه تحت السطحية،ولا نبتت نبتة ولا أمكن لكائن حيّ أن يستقر على سطح الأرض”.
ويقول الدكتور القرضاوي ( موقع القرضاوي ):
” ولو نظرنا إلى علم أصول الفقه الذي يُعنى بمقاصد الشريعة والضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها : الدين، والنفس، والنسل،والمال ، والعقل،كل هذه الضروريات لها علاقة بالبيئة،لأنه إذا أفسدنا البيئة لم نحافظ على أنفسنا ولا على صحتنا ولاعلى نسلنا “.
وتقول الموسوعة الحرة ـ ويكيبيديا ـ:
“الإنسان مرهون ببيئته بل ومرتبط بها ارتباطاً وثيقاً، ولو اختلّ هذا الرباط اختلت موازين البشر واعتلّت صحتهم وانتابتهم الأسقام والأوجاع والأمراض المزمنة ، لهذا فإن حفاظ الإنسان على البيئة فيه حفاظ له وللأجيال من بعده ” .
والإسلام يحارب من يفسد البيئة ويتوعده بأشدّ أنواع العقاب { ولا تُفسدوا في الأرضِ بعد إصلاحها}[الأعراف56] .
يقول الدكتور القرضاوي :
” مامعنى بعد إصلاحها، يعني أن الله خلق الأرض صالحة مهيأة لتعطي الإنسان ما يحتاج إليه . قال تعالى: {وباركَ فيها وقدَّرَ فيها أقواتَها}[فصلت 10] ،فحين خلق الله الأرض بارك فيها،وقدّر أقواتها، فنحن نأتي لنفسد هذه الأرض،ونفسد التربة والماء والهواء وكل شئ، فنحن لا نشكر نعمة الله بل نكفر بها “.
والإسلام يحارب إفساد البيئة من منظور إيجابي ـ زرع الفسيلة ـ
جاء في الحديث الشريف :” إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها [رواه مسلم ].
وكما جاء أيضاً في الحديث الشريف :” مامن مسلم ٍ يَغرِسُ غَرْساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طيرٌ ولا إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة “[ رواه مسلم والبخاري والترمذي ]، وقال صلى الله عليه وسلم :”ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة ، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة الى يوم القيامة “.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي ـ موقع القرضاوي ـ :
” ومقتضى الحديث ان الثواب مستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولاً منه،أو منتفعاً به ولو مات غارسه أو زارعه .. ولو انتقل ملكه الى ملك غيره . قال العلماء : في سعة كرم الله أن يثيب على ما بعد الحياة،كما كان يثيب على ذلك في الحياة ، في ستة :صدقة جارية،أو علم ينتفع به،أو ولد صالح يدعو له،أو غرس،أو زرع،أو رباط .
ويتابع القرضاوي حفظه الله :” وقد روي أن رجلاً مرّ بأبي الدرداء رضي الله عنه وهو يغرس جوزة فقال : أتغرس هذه وأنت شيخ كبير،وهذه لا تثمر إلا في كذا وكذا عاماً ؟ فقال أبو الدرداء : “ما علي أن يكون لي أجرها ويأ كل منها غيري “.
وهناك أحاديث أخرى تدعو الى استصلاح الأراضي وزرعها ومنها :” من أحيا أرضاً وعرة من المصر أو ميتة من المصر فهي له “[ رواه أحمد في مسنده ]. وحديث أخر :” ما من امرئ يحيي أرضاً فيشرب منه كبد حراء وتصيب منها عافية إلا كتب الله به أجراً “[ رواه الطبراني] ، وحديث :” أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الأرض أرض الله والعباد عباد الله فمن أحيا موتها فهو أحق به ” [رواه أبو داود والترمذي ومالك] .
ومن منظور سلبي:
بعدم قطع الأشجار مثلاً كما جاء في الحديث الشريف :” من قطع سدرة ، صوّب الله رأسه في النار “.
(والسدرة هي شجرة السّدرأوالكنار أوالنبق،وهي شجرة يستفيد الناس من ثمرها ويستظلون بظلها)
وحتى في أوقات الحرب نهى الإسلام عن إفساد البيئة ومنها قطع الأشجار وخاصة المثمرة منها .
هذه الأحاديث النبوية الشريفة دعوة صريحة تربي فينا السلوكيات البيئية الايجابية نحو التخضير ونشر الخضرة في كل مكان،ومنع قطع الأشجاروالنباتات إلا لضرورة ملحة، فهي جانب ايجابي للزرع والتخضير وجانب اخر بمنع قطع الأشجار واقتلاع النباتات وهما العنصران الرئيسيان في حماية البيئة في عصرنا الراهن .
فالدين الإسلامي قد سبق التشريعات الوضعية إلى وضع تشريعات محكمة لرعاية البيئة وحمايتها من خلال مبدأين أساسيين يحددان مسؤولية الإنسان حيال البيئة التي يعيش فيها :
1 ـ درء المفاسد حتى لا تقع بالبلاد والعباد وتسبب الأذى للفرد والمجتمع والبيئة حيث لا ضرر بالنفس ولا ضراربالغير.
2 ـ جلب المصالح وبذل كل الجهود التي من شأنها أن تحقق الخير والمنفعة للجماعة البشرية، وأهم مايميز هذا المنهج الإسلامي هنا هو الأمر بالتوسط والاعتدال في كل تصرفات الإنسان .
نعم ظهر الفساد في البر والبحر والجو مما اقترفته أيدي الانسان، وذلك أن هذا الانسان لم يكتف بالاعتدال في ما يعمل ويصنع ،وتجاوز القصد إلى الافراط والطغيان، وقفز قفزات لايستوعبها الخيال ولا تقرها الأحوال من أجل منفعة مادية قريبة، ومن أجل ربح عابر، أودى بالبشرية إلى سقم دائم ومعاناة مستمرة ، واذا بمصانعه ومعامله وترسانته الصناعية والكيماوية ترسل الأبخرة السامة والغازات القاتلة والنفايات الضارة، وتطلق الاشعاعات المؤينة والرواسب النووية التي ألحقت الأذى بالإنسان والبيئة ومكوناتها، ولنأخذ بعض الأمثلة على الفساد الذي ألحقه هذا الانسان بطمعه وجشعه في بيئته وحياته وحياة الكائنات التي تشاطره الحياة على هذه الأرض .
جاء في كتيب صحة البيئة في ميزان الإسلام للدكتور حسين عبد الرزاق الجزائري :
لنتخذ بعض الأمثلة عما أحدثه الإنسان في إفساد البيئة :
1 ـ الماء :
إذا كان الإنسان في البادية يكتفي بثلاثة ألتار من الماء يومياً لقضاء حوائجه جميعاً ، فإن الإنسان الحضري في الأمصار يحتاج إلى ألفي لتر يستعملها في شرابه وتجمله، وتنظيف نفسه ومنزله وما حوله، وسقي حديقته،وتؤلف قسطاً مما يستعمل في ريّ المزارع التي يأكل منها،والمصانع التي ينتفع بمصنوعاتها وفي الماشية التي يستفيد من لحومها وألبانها،وما إلى ذلك، ومن أجل ذلك احتاج إلى حفر الآبار،وشق الترع، ومد شبكات المياه،وإقامة السدود والصهاريج .
ولكن الانسان المتحضر يلوّث الماء في مختلف مراحل استعماله له:
ـ في مستوى الاستعمال الشخصي : بما قد يلقيه فيه من جراثيم وطفيليات وغير ذلك من المركبات العضوية ، وفي مستوى الاستعمال المنزلي بما يصبه فيه من منظفات وغيرها من المواد الكيمائية بالإضافة الى الأحياء الدنيا الأنفة الذكر .
ـ وفي مستوى الاستعمال الزراعي: بما يضيفه إليه من مُبيدات حشرية وأسمدة ومن مفرغات حيوانية كثيراً ما تحمل عوامل المرض .
وفي مستوى الاستعمال الصناعي : بما ينسكب فيه مباشرة من المصانع ، أو بما ينطلق من المصانع من ملوثات الهوى التي تترسب فيه .
وأهم هذه المواد التي تلوث الماء :
أولاٍ: الفضلات العضوية : ومصدرها القاذورات المنزلية في الريف والحضر على السواء،وكذلك الفضلات الصناعية ذات المنشأ الحيواني والنباتي،وعلى الرغم من أن القاذورات المنزلية هي المصدرالأهم للفضلات العضوية القابلة للتفكك، فإن الصناعة تساهم بقدرلايقل عن ذلك من هذه الفضلات، وأهمها الصناعات الغذائية وصناعات الورق، التي تصب في الماء كميات كبيرة من الأجزاء النباتية والحيوانية . وتفكك هذه الفضلات العضوية بفعل الجراثيم يستنضب الاوكسجين من الماء،مؤدياً الى مشكلات كبيرة،ولاسيما بقضائه على الأسماك والحياة المائية،وتوليده شروطاً مناسبة للتلوث الإنتاني .
ثانياً : العوامل الحية : وأهمها الجراثيم والفيروسات وسائرالأحياء المجهرية التي يمكن أن تحدث المرض، وهي تدخل الماء مع القاذورات المنزلية أومع بعض الفضلات الصناعية،ولاسيما تلك التي تتعلق بالدباغة والمذابح ,وإذا كانت الجراثيم المسببة للهيضة ـ الكوليرا ـ والحمى التيفية قد كوفحت مكافحة فعالة في معظم البلدان المتقدمة ، فإنها لا تزال تمثل خطراً كبيراً في كثير من البلدان النامية، والأصعب منها مكافحة كثير من الفيروسات التي يمكن ان تحدث الإلتهابات المعوية وغيرها من الأخماج التي قد تسبب مشكلة صحية خطيرة .
ثالثاً : الأسمدة : إن المُخصبات النباتية،أي تلك المواد التي تُنّشط نمو النبات هي كذلك من مُدنسات الماء الرئيسية، وأهم عناصر التلويث فيها النتروجين والفسفور،ولو أنه قد توجد آثار زهيدة من بعض العناصر الأخرى . وتنصب هذه العناصر في الماء أتية مع القاذورات أو بعض الفضلات الصناعية أو ماينزح من الأراضي المسمدة والتربة الغنية بالنترات، ولا تفلح معالجة الماء البيولوجية للتخلص من الفضلات في إزالة هذه المغذيات النباتية من الماء،بل إنها لتجعلها أكثر قابلية للإستعمال من قبيل النباتات المائية، وبذلك تقوم بتخصيب هذه النباتات المائية من طحالب وما إليه مما يولد مشاكل جسيمة،ويجعل طعم الماء غير مستساغ ورائحته غير مقبولة، فضلاً عما يحدثه النموالبالغ لهذه النباتات من استهلاك للأوكسجين .
رابعاً: الكيماويات العضوية التركيبية :وتدخل فيها المنظفات وغيرها من وسائل التنظيف المنزلية ومبيدات الحشرات والكيماويات الصناعية . ولعل أهمها المبيدات الحشرية كال د. د. ت،وال دي ايلدرين،وال كلوردان، وغيرها مما يستعمل في إبادة الآفات الزراعية،ولكنها تصل في نهاية الأمرإلى الماء.
خامساً: الكيماويات اللاعضوية : ومن أهمها التلوث بالزئبق الذي يسبب مشكلات خطيرة في كثيرمن المجاري المائية وهو ينتقل منها إلى الأحياء المجهرية المائية، ثم إلى الأسماك، ثم طيور الصيد ثم إلى الإنسان . ومصدر هذه المواد المعدنية عمليات التعدين والتصنيع،وكذلك عمليات حقول النفط ، كذلك تنصب كميات كبيرة من مختلف أنواع الحموض كجزء من الفضلات الصناعية .
سادساً : المواد المشعة : وهي تلوث المياه أتية من صناعات الطاقة النووية ، سواء في مرحلة تعدين الفلزات المشعة ومعالجتها، أو استعمال المواد المشعة المكررة، والمفاعلات النووية في الصناعة والتشخيص الطبي والبحوث . يضاف الى ذلك ما ينهال ويتساقط على الارض من التفجيرات النووية المختلفة .
سابعا ً: الماء الساخن : وازدياد استعمال الماء في عمليات التبريد الصناعية يؤلف نوعا جديدا من التلوث . فهذه الكميات الهائلة من المياه المستعملة للتبريد في محطات توليد الكهرباء وتكرير النفط والصناعات البتروكيماوية تعود الى البحيرات أو الجداول أوالمياه الشاطئية التي اشتقت منها فترفع حرارة الماء ، وذلك يؤدي إلى إنقاص ذوبان الأوكسجين في الماء مما ينقص تفكيك الملوثات المستهلكة للأوكسجين ويضعف من تغذية الأسماك والأحياء المائية،ومن جهة أخرى قد يكون للماء الساخن تأثير مباشرعلى هذه الأحياء بتغيير بيئتها الفيزيائية مما يضعف تكاثرها ، ثم إن سخونة الماء تسرع التفاعلات المستهلة للاوكسجين
ثامناً: النفط : يمكن أن يتلوث الماء بالنفط المنسفح من البوارج أوالسفن أو من بعض الحوادث، أو من الإهمال حين نقل النفط الخام . ويقدر أن مليوناً ونصف مليون طن من النفط تنسفح في المحيطات كل عام . والمياه الملوثة بالنفط تحدث تخريباً كبيرأ للأحياء المائية التي تعيش عليها . وإن النفط يخرب كثيراً من غذاء الأسماك والمحار.
وإذا نظرنا إلى ماء المطر النعمة المهداة الذي ينزل من السماء ماء طهوراً : {وأنزلنا من السَّماءِ ماءً طَهوراً* لِنُحيَ بهِ بلدةً مَيتاً ونُسقِيَهُ مما خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيرا} [الفرقان 48 ـ 49] هذه النعمة بدأنا في إفسادها وبدلّناها من طبيعتها الفطرية،إذ أصبح المطر يسقط في مناطق كثيرة وخاصة في البيئات الصناعية مطراً حَمضياً يُهلك الحرث والنسل .. فقد بلغت درجة الحموضة للمطر في بعض المناطق درجة عالية أدى في بعض البحيرات وخاصة في أمريكا الشمالية وشمال غرب أوروبا إلى خسارة شديدة في الثروات السمكية وأصبحت 90 بحيرة في منطقة جبال ادروندك في ولاية نيويورك على سبيل المثال خالية تماما من الأسماك تحت تأثيرالحموضة المتزايدة لمياه البحيرات،وهي حموضة قاتلة للأحياء . إضافة لذلك إن حموضة مياه البحيرات تعمل على تحرير المعادن السامة من قاع البحيرات وتحول المياه بها إلى مياه سامة ، وكذلك أكدّت الأبحاث أن المطر الحمضي يمنع حاسة الشم عند سمك السالمون ولهذا يفقد قدرته على إيجاد طريقة نحو مجاري الأنهار العليا من أجل وضع بيضه وإتمام عملية الفقس كما أن الأمطارالحمضية تضرّ بالمحاصيل الزراعية تحت تاثير ترسب كميات كبيرة من المواد الحمضية في التربة مما يغير تركيبها الكيماوي في إتجاه الحموضية المتزايدة التي تضر بل تقتل النباتات .
كما يؤدي المطر الحمضي إلى تدميرالكثير من الأشجار والنباتات حيث تموت الأشجار واقفة كما يقولون إذ تتلف الأوراق العلوية المعرضة مباشرة للمطر الحمضي الذي يقتل المادة الخضراء فيها ثم ينتقل التأثير بعد ذلك إلى الأوراق التحتية، وأوضحت بعض التقارير من المانيا عام 1980 أن مساحة من الغابات تقدر بنحو 650 الف هكتار أي حوالي 7،7 من مجموع مساحات الغابات في المانيا قد دمرت أو أتلفت بدرجات متفاوتة نتيجة المطر الحمضي والضباب الحمضي .
2ـ الهواء :
الجو يتألف كما نعلم اليوم من مزيج من :
ـ غازات دائمة التركيز (أو قل الهواء الحقيقي): وهي على الأخص الأوكسجين والأزوت (النتروجين ).
ـ غازات متبدلة التركيز ( الأجزاء المائية البخارية) : وهي على الأخص بخارالماء وثاني أوكسيد الكربون.
ـ مختلف الجسيمات الصلبة والسائلة المعلقة في الهواء، أو قل الأجزاء الأرضية المتصعدة في الدخان والغبار .
ـ ضروب مختلفة من الإشعاع تأتي من الفضاء الخارجي (الأشعة الكونية ) أو من الشمس .
فمن الغازات نخص بالذكر ثاني أوكسيد الكربون الذي يدخل الجو من زفير الحيوانات والنباتات،ومحاصيل الاحتراق، ويستبعد من الجو بفعل عملية التركيب الضوئي في النبات .
ولقد عدلّت أنشطة الإنسان المستمرة مما يحتويه الهواء منه تعديلا كبيراً، فزاد محتوى الجو من هذا الغاز بمعدل 25 بالمائة في القرن الأخير،وهو مستمر في الزيادة من جراء ما يقوم به الإنسان من حرق وقود المستحاثات ، وقطع أشجار الغابات وأعشاب المروج ، مما يزيد من إنتاجه ويقلل من استهلاكه .
ومن الغازات أيضاً الأوزون،وهو ذلك الشكل من الأوكسجين المؤلف من ثلاث ذرات،وهو مادة مُهيّجة مُخرّشة للأغشية المخاطية ولاسيما في جهاز التنفس وهو في طبقات الجو العليا، وهو مادة حافظة واقية بسبب قدرته الامتصاصية القوية للأشعة فوق البنفسجية الأتية من الشمس، فهو يستبعد معظم الأشعاع فوق البنفسجي الذي تقل أطول موجاته عن 310 نانو مترات،وهو الاشعاع الذي يمكن أن يخرب المادة الحية .
والأوزون : يتولّد في طبقات الجو العليا عندما يتم امتصاص الأشعة الشمسية القصيرة الموجة من قبل الأوكسجين الجزيئي , ولكنه يتحوّل ثانية إلى هذا الأوكسجين الجزيئي في تلك الطبقات الجوية العليا نفسها بفعل التفاعلات الكيميائية الضوئية التي يحفزها عدد من الغازات .
ويوجد الاوزون في مستوى صعيد الارض بتراكيز غير مؤذية 10 ـ 30 جزء بالبليون ، من جراء تسلله من الطبقات الجوية العليا , ولكن الحفازات النتروجينية التي تفككه في الجو العلوي تساعد على توليده في الجو السفلي ، ولا سيما تلك الأكاسيد الآزوتية والهدروكربونيات التي تصدرها عوادم السيارات، فتبدأ آثاره الضارة بزيادة هجمات الربوعندما يبلغ 150جزءاً بالبليون،وتهييج الحنجرة 300 بالبليون ، بالاضافة إلى تخريبه وتأخيره لنمو النبات .
أما الأشعة تحت الحمراء فإنها أشعة تسقط من الشمس على سطح الارض فيمتصها ثم يعيد إصدارها إلى الأعلى، فيمتص معظمها ثاني أوكسيد الكربون وبخار الماء اللذان في الجو،ثم لا يلبثان أن يُعيدا إصدارها في اتجاه الأرض وفي اتجاه الفضاء الخارجي . وهكذا يقوم بخار الماء وثاني اوكسيد الكربون بدور ملاءة تحافظ على دفء سطح الارض .
واحتراق الفحم والنفط والغاز يزيد محتوى الهواء من ثاني اوكسيد الكربون فيرفع درجة حرارة الهواء الموضعية مُخلاً بالميزان الحراري من الشمس وانعكاساتها المتكررة بين الأرض والجو .
وتلوث الهواء مشكلة أكبر من تلوث هواء الريف ولاسيما في الحواضر الكبيرة ، وصار كثير من المدن الكبرى أوالأمصار مُعرضاً لجو خانق فظيع ، وما زال تلوث المدن في ازدياد مستمر، ولا سيما بفعل وسائل النقل من سيارات وشاحنات تنفث عوادمها أكثر من نصف (حوالي 56 بالمائة ) ما يلوث الهواء، ثم من طائرات وقطارات وبواخر في أماكن وجودها، ويلي وسائل النقل في الأهمية مصادر الإحتراق الأخرى الثابتة مثل محطات توليد الطاقة الكهربائية وأجهزة التسخين (22 بالمائة) تليها المصانع المختلفة (15 بالمائة ) ثم حرائق الغابات ومحاصيل المزارع (5 بالمائة ) ثم محاصيل ترميد الفضلات الصلبة (2 بالمائة) .
وأهم الجواهر الغريبة التي تدخل في تلويث الهواء ستة أصناف : أول اوكسيد الكربون، والجسيمات المعلقة، وأكاسيد الكبريت،والهدرو كربونيات الغازية ، وأكاسيد النتروجين،والأوزون .
أما أول أوكسيد الكربون : ذلك الغاز السام، فمصدره الرئيسي هو الإحتراق غير الكامل للوقود الكربوني، ولاسيما في السيارات، فهي جسيمات صلبة أو سائلة، يتراوح حجمها بين ما يمكن من دخان أو هباب،وأما الجسيمات المعلقة في الهواء ما لايُرى إلا بالمجهر الإلكتروني، وهذه الجسيمات الدقاق يمكن أن تبقى معلقة في الجو مدة طويلة، وأن تُحمل الى مسافات بعيدة ، تذرها الرياح ، ومصادرها الرئيسية أجهزة احتراق الوقود الثابتة ، كأجهزة التدفئة وتوليد الطاقة التي تنتج جُلّ الجسيمات المرئية .
أما الأكاسيد الكبريتية: فأهمها ثاني أوكسيد الكبريت وحمض الكبريتيك وسائر مركبات السلفات، وهي تصدر من الوقود الكربوني وجلّه مُلّوث بالكبريت ، كما تصدر من بعض أنواع المصانع . وإن ثاني أوكسيد الكبريت وثاني أوكسيد النتروجين هما غازان سامان ومسؤولان عن تكوين الأمطار الحمضية وذلك بتفاعل هذين الغازين مع ذرات الماء وتشكيل حمض الكبريتيك وحمض النيتريك اللذان يعتبران سما قاتلا للنباتات والغابات وإتلاف المنشآت .
وأما الهيدروكربونيات الغازية: فهي غير سامة في حد ذاتها بالمقادير التي توجد بها ولكنها تعتبرمن أهم مُدنسات الهواء لدورها في تشكيل الأوزون وسائر المؤكسدات .
وأما الاكاسيد النتروجينية : فتتشكل من إتحاد النتروجين بالأوكسجين في الحرارات العالية التي يحترق بها الوقود ،وخطرها يتمثل في توليد الأوزون

يقول الأستاذ الدكتور مرشد خاطر في مقال بعنوان “هواء المدن” نشره في أحد أعداد مجلة المجمع العربي بدمشق:

“سبعة مؤثرات تؤثر في هواء المدن فتصلحه إذا صلحت وتفسده إذا فسدت وهي:

1 ـ الموقع الجغرافي وينطوي تحته أربعة أمور:الارتفاع عن سطح البحر،وتركيب الأرض الجيولوجي،ومسيل الماء،ومهب الرياح.

2 ـ غرس الأشجار ووجود الساحات الفسيحة.

3 ـ تلوث الهواء بغبار الطرق العامة الناقل للجراثيم المرضية.

4 ـ تلوثه بالروائح الكريهة والدخان وما ينبعث من المصانع والمعامل من غبار المعادن وسواها.

5 ـ ضرر المدافن فيه.

6 ـ فساده بنقل المواد الغائطة.

7 ـ تأثير حالة الطرق العامة فيه وينطوي تحته ميل الطرق وهيئتها وأرصقفتها ومجاريها ووجهتها وتعرضها للشمس وهندسة بيوتها.

1 ـ الموقع الجغرافي:

نأخذ مثالاً على ذلك مدينة دمشق،وهي مدينة تخترقها الأنهر الغزيرة وهي ذات موقع جغرافي حسن،فهي قائمة في سهل تكتنفه الجبال البعيدة فإلى الشمال جبل قاسيون الممتد من الربوة حتى ثنية العقاب حيث بدء جبل القلمون،وفي سفحه حي الصالحية والمهاجرين وإلى الشمال الشرقي جبل القلمون(يوناني معناه القصب)وهو يبعد عن المدينة خمسة كيلو مترات أو ستة،وإلى الغرب الجنوبي جبل الشيخ وهو يبعد ثلاثين كيلو متراً عن دمشق وبه تمر الرياح الغربية الجنوبية الباردة في فصل الشتاء.وأمام جبل الشيخ تقوم جبال الربوة والمزة وتبعد عن دمشق زهاء ثلاثة كيلو مترات وإلى الجنوب جبال حوران الممتدة حتى البادية وتبعد عن دمشق ثلاثين كيلومترا،وإلى الشرق البادية المطلقة ومنها تهب الرياح الحارة في فصل الصيف وإلى الشرق الجنوبي تمتد الغوطة حتى بحيرة الهيجانة التي يصب بها نهر بردى ،وتلك البقعة يكثر فيها السباخ والمستنقعات.

فموقع دمشق الجغرافي متوفرة فيه الشروط الصحية لأن الجبال التي تكتنف المدينة بعيدة لا تمنع الشمس عن إرسال أشعتها القاتلة للجراثيم ولا توقف الأرياح العاصفة عن الوصول إلى المدينة فتجدد حتى في أضيق أزقتها الهواء تجديداً دائماً.وإنما وجود الغوطة في الجهة الشرقية من المدينة يجعل البعوض يتكاثر والبرداء وحمى الأيام الثلاثة تتفشيان تفشياً شديداً ،وهذا يمكن القضاء عليه بتجفيف المستنقعات مهما كلف الأمر.وإن دمشق متوفرة فيها من الوجهة الجيولوجية ومسيل الماء الشروط الملائمة للصحة لأن آبارها عميقة لا يوصل إلى المناء فيها قبل حفر عشرات من الأمتار .

2 ـ الارتفاع عن سطح البحر:

إن الارتفاع يؤثر شديداً في هواء المدن فيصلحه أو يفسده ولعله أقوى المؤثرات ,اهمها حتى أن بعض علماء الصحة يرى فرقاً بين حي وآخر من أحياء مدينة واحدة لا يتجاوز فرق ارتفاعهما عشرين متراً أو أربعين،والبرهان على ذلك جليّ واضح في دمشق فإن حي الصالحية والمهاجرين القائم في سفح جبل قاسيون أجود هواء من سائر أحياء دمشق لأنه أكثر ارتفاعاً منها.

وإن للارتفاع حداً إذا تجاوزه أضرَ بالصحة ضرراً بليغاً لأن الضغط الهوائي ينقص كلما علت المدينة،وكلما خف الضغط الهوائي نقصت كمية الأوكسجين في الهواء فينشأ عن ذلك النقص تبدل محسوس في الصحة،وهذا الارتفاع المضر يحدث عندما يقع الارتفاع بعد ألف وخمسمائة متر.وخير المدن هواء ما تراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين سبعمائة وألف متر.

3 ـ الوجهة الجيولوجية أو تركيب طبقات الارض:

حيث تقسم المدن إلى صخرية ورملية وصلصالية ولحقية وهي أرض مركبة جيولوجياً من مواد كانت عالقة بالماء فرسبت بعد نضوب الماء منها .وقد أضيف إلى هذه الأقسام قسم خامس وهو المدن التي تقام على أرض اصطناعية.

فالمدن الصخرية أجود هواء من سائر المدن الأخرى وذلك بسبب صلد أرضها أي عدم نفوذها وسيلان المواد العفنة والمياه القذرة عليها دون أن تمتصها الأرض فتبقى كامنة فيها وتنشر الأوبئة والأمراض متى تيسرت لها الذرائع الملائمة.

وأما المدن الرملية فلا تعد ملائمة للصحة إلا متى كانت الطبقة الواقعة تحت الرمل غير صلداء لأنها إذا كانت صلصالية اجتمع الماء فيها ورطب الأرض وكانت تلك الطبقة كخزانات للمواد العفنة تجتمع فيها فتلوث طبقة الأرض السطحية وتفسد الهواء.

وأما المدن اللحقية فإنها مدن يكثر فيها السباخ وتتوفر فيها الشروط الملائمة لنمو البعوض وتكاثره.

4 ـ الأرياح:

أما الأرياح التي تنقل الرطوبة أو الجفاف فإن لها الأهمية الكبرى من الوجهة الصحية لأن لها حسنات وسيئات،فمن حسناتها تجديد الهواء واستبدال ما أشبع منه بذرات الفحم وحامض الفحم وسائر المواد الأخرى المضرة بهواء آخر آت من البحر والجبل وصالح للتنفس وتنقية الدم،وهذه التهوية الطبيعية لا بد منها في مدن يكثر عدد سكانها وتتراصف بيوتها وتقام فيها الأبنية الشاهقة المتعددة الطبقات.ومن سيئاتها أنها متى كانت خفيفة حملت الغبار الملقى على الأرض فتطاير في الفضاء ناقلاً معه الجراثيم المرضية.وملافاة لهذا المحذور يجب علينا أن نجعل الغبار ملتصقاً بالأرض فنكثر من رش الأسواق والمنعطفات ولا ندع للرياح تأثيراً فيه.

5 ـ غرس الأشجار ووجود الساحات الكبيرة:

إن الأشجار من العوامل التي تبدل تركيب الهواء وتجعله صالحاً للتنفس،ومن العناصر التي تصلح حالة الارض وتجففها،فإن أوراق الأشجار تمتص من الهواء حامض الفحم وتحوله إلى فحم فتغتذي به وإلى أوكسجين لا تحتاج إليه فتبعثه بالهواء رحمة بالإنسان والحيوان وإن معظم الأوكسجين تلقيه الأشجار بهيئة اوزون وهو من الغازات التي عرفت اليوم قيمتها الكبيرة.

وفضلاً عن ذلك فإن الأشجار تمتص قسماً كبيراً من رطوبة الهواء،ويقال أن ما تمتصه شجرة واحدة كبيرة مورقة بمائة ليتر ماء كل يوم.وكما أنها تمتص من الهواء البخار المائي فتجففه فإنها تمتص من رطوبة الا{ض القسم الاكبر من الماء الذي تحتاج إليه في يومها بجذورها المرسلة بعيداً إلى أعماق الا{ض.ويقال أن الشجرة تمتص من رطوبة الأرض خمسة أضعاف ما تمتص من الهواء تحت تأثير حرارة الشمس فكم هي عظيمة كمية الماء الذي تمتصه أشجار أحد الشوارع من أرض البيوت المشيدة على أطرافها؟

ولا تنحصر فائدة الأشجار بامتصاص رطوبة الهواء والأرض ولن الظل الذي تنشره على الأرض يأتي بفوائد جليلة مدة الصيف،ولا سيما في البلاد الحارة،فإنه يقي الكثيرين من الرعن أي ضربة الشمس.

6 ـ الغبار وتأثيره في هواء المدن:

إن الغبار المنتشر في الهواء ينقل معه كثيراً من الجراثيم المرضية متى عصفت الريح ووجدت المجاري الهوائية فتدخل تلك الجراثيم بطرق متعددة بأحذيتنا وأثوابنا وبشرة أجسادنا والحيوانات الداجنة وكل ما في الأسواق من البضائع والمواد الغذائية.ولا يؤثر الغبار في الإنسان والحيوان فقط بل يؤثر في النباتات أيضاً لأنها تتنفس  كليهما فإن الأشجار متى كسا أوراقها الغبار تذوي وتموت وإذا لم تمت تضعف خاصة التنفس فيها فتفقد وظيفتها الأساسية وهي تجديد الأوكسجين وتنقية الهواء الذي يتنفسه الإنسان.

ولا تنتشر الجراثيم بالأرياح فقط بل تنتشر أيضاً بطرق أخرى منها نفض الطنافس في الشرفات والنوافذ وندف القطن والصوف المحشوة بهما لحف المرضى وفرشهم في المخازن المشرفة على الطرق العامة.

إن أهم المشاكل التي تنجم عن الفساد الذي ألحقه الانسان في البيئة يتمثل :
1 ـ الاحتباس الحراري
2 ـ فجوة الأوزون
3 ـ تلوث البيئة
وقبل الحديث عن هذه المشاكل لابد من التعرف على بعض المصطلحات ومنها :
1_ غلاف الأرض الجوي :

يقول الدكتور عبد الرزاق الكيلاني في كتابه “الوقاية خير من العلاج”:

“لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون هواء أكثر من دقائق معدودة(4 ـ 5 دقائق).لذلك كان الهواء مبذولاً في جو الأرض.ولولا ذلك لما كان فيها حياة.

الأرض كرة صلبة تسبح في الفضاء،ويحيط بها كرةٌ من الهواء،وكرة من غاز الأوزون.تبدأ كرة الأوزون من ارتفاع عشرة كيلومترات فوق سطح الأرض،حيث تكون رقيقةٌ متخلخلة،ثم تبدأ بالتكثف تدريجياً حتى تبلغ أقصى كثافة لها على علو 22 كيلومتراً من سطح الأرض،ثم تبدأ بالتخلخل مرة أخرى إلى أن تضمحل وتتلاشى ابتداءً من علو 40 كيلومتراً من سطح الأرض.

ويتابع:”هيأ الله سبحانه وتعالى مصافي لتصفية الهواء،تأخذ منه غاز ثاني أوكسيد الكربون وتفككه إلى فحم وأوكسجين،فتحتفظ بالفحم لنفسها وتعيد الأوكسجين إلى الهواء.وهذه المصافي هي مياه البحار والأشجار والنباتات.

فالفحمات(الكربونات) الموجودة في مياه البحار تجذب غتز ثاني أوكسيد الكربون من الجو وتتحد به مشكلة معه البيكربونات. والأهم من ذلك هو عمل الأشجار والنباتات التي تجذب غاز ثاني أوكسيد الفحم من الهواء فتحلله بفعل اليخضور(الكلوروفيل) وتحتفظ بالفحم وتطلق الأوكسجين إلى الهواء.

وقد تبين أن الشجرة المتوسطة تمتص كل يوم 1كغ من الغازات الضارة في الهواء،والدنم الواحد(1000متر مربع)من المُسطحات الخضراء يُنقي 5،4مليون متر مكعب من الهواء من الغازات الضارة في اليوم،لذلك يقول المختصون بالبيئة إن كل شخص من السكان يحتاج إلى 30 متر مربع من المسطحات الخضراء،ثم رفعوا هذا العدد إلى 50 بعد أن رأوا ازدياد نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون في الهواء بنسبة 005،% في السنة،حتى أصبحت نسبته في الهواء الآن 3،3في ال 10 آلاف بدلاً من 3 فقط،مما يسبب ارتفاع الحرارة والجفاف ايضاً،والأعاصير والأمطار أحياناً أخرى”.
يطلق اسم سماء على كل ماعلا رؤوسنا، وسقف الأرض هو الغلاف الجوي الذي يرتفع الى علو ألف الكيلومترات فوق سطح الأرض والذي تمسكه الأرض وتمنع انفلاته إلى الفضاء الكوني من خلال قانون الجاذبية الأرضي ، وصدق الله تعالى : { اللهُ الذي رفعَ السَّمواتِ بغيرِ عَمَدٍ تَرونها} [الرعد 2] ، وأما القبة الزرقاء فهي ناجمة عن تشتت أشعة الشمس الزرقاء بوفرة في طبقات الهواء الكثيفة نسبيا قرب سطح الارض إلى علو نحو 200 كم .
وهذا الغلاف هو طبقة من خليط من غازات تُحيط بالكرة الأرضية مجذوبة إليها بفعل الجاذبية الارضية . يحوي على 78 بالمائة من غاز النيتروجين،وهو غاز خامل لا يساعد على الاشتعال وغير قابل للذوبان في الماء. و21 بالمائة من الأوكسجين وهو غاز نشيط يساعد على الإشتعال وقابل للذوبان في الماء من إجل الأحياء المائية التي تعتمد في حياتها على الأوكسجين المذاب في الماء ، والبقية غازات أخرى ، ومنها الأرغون وثاني أوكسيد الكربون والهيدروجين وأول اوكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت والهيليوم والميتان والأوزون والنيون والزينون وغيرها .
وفي درجة حرارة تبلغ 40 درجة يمكن للهواء أن يحتوي من 0 الى 7 بالمائة من بخار الماء . وتختلف هذه النسبة باختلاف الرطوبة .
ويحمي الغلاف الجوي الأرض من امتصاص الأشعة فوق البنفسجية ويعمل على اعتدال درجات الحرارة فوق سطح الكوكب .
ومن آيات الله سبحانه وتعالى أن نسبة غاز النتروجين العالية 78( بالمائة) وهو الغاز الخامل الذي لايساعد على الاشتعال مُقدرة تقديراً دقيقاً من قبل الخالق العليم الخبير . إذ لو كانت نسبته أقل من هذه النسبة المقدرة وحدث أن سقطت شرارة كهربائية من الفضاء الخارجي نحو الأرض لأحترق كل شئ على سطح الأرض إذ أن هذه النسبة هي التي تضبط وتقنن طبيعة الأوكسجين القابل للإشتعال .
وأما غاز ثاني أوكسيد الكربون والذي نسبته (3)’بالمائة من حجم الهواء فإنه بهذه النسبة يلعب دوراً مهماً جداً في إعالة الحياة على سطح الارض ، حيث أودع الله في هذا الغاز خاصية امتصاص الموجات الحرارية الأرضية أي الأشعة تحت الحمراء، والاحتفاظ بها في الغلاف الجوي، وإنه يمكن له ان يمررهذه الاشعة تحت الحمراء بسهولة من الشمس إلى الارض،وهذا يعطي هذا الغلاف درجة مناسبة من الحرارة التي تسمح بوجود الحياة، ومعنى هذا أن الإخلال بنسبة الغاز زيادة أو نقصانا تعني في حد ذاتها زيادة أو نقصانا في درجة حرارة الغلاف الجوي وما يحمل ذلك من مخاطر كثيرة وهذا ما يفسر لنا الوضع القلق الذي تعيشه البشرية حالياً بسبب الزيادة المطردّة في نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي منذ الخمسينيات من القرن الماضي حيث زادت النسبة من 3‘عام 1950 الى 325‘عام 1970 الى 345‘ عام 1980 وما يصاحب هذا من ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي . وإذا زاد تركيز هذا الغاز عن 5000 جزء من المليون (وهو الحد الأعلى الأمن في منطقة العمل) فإنه ذو تاثير خانق .
وعلى الرغم من ضآلة تركيز الغازات النادرة فإن وجود كل منها وبتركيز محدد يُمكّن الغلاف الجوي من تأدية وظيفته على الوجه الأكمل، وغياب أي من هذه المكونات أواختلاف تركيزها يؤثر في وظيفة الغلاف الجوي وخاصة مناخ الأرض ودرجة حرارتها .
ان الغازات النادرة تعمل على منع تسرب حرارة الأرض للفضاء الخارجي ، إذ يقوم بعضها بامتصاص جزء من الإشعاعات المرتدّة من الارض، ويؤدي إلى سخونة هذه الغازات فتشع حرارة في كل الإتجاهات،ويتجه نصفها تقريبا نحو الأرض مرة أخرى فتعمل على الحفاظ على درجة حرارتها، كما يعمل الغلاف الجوي والغلاف المائي للأرض على الحدّ من التفاوت الكبير بين درجات حرارة النهار والليل والصيف والشتاء،وهذا ما يجعل الأرض موطنا صالحا للمياه ، ويمكننا أن نقدر أهمية الغلاف الجوي المحيط بالارض مقارنة بين جو الأرض وجو القمر،فالقمر يبعد المسافة نفسها تقريبا التي تبعدها الارض عن الشمس ولكن لا يحيط به غلاف هوائي ولا يحتوي على بحار،ولذا فهناك تفاوت كبير بين درجة حرارته العظمى والصغرى فترتفع درجة الحرارة الى 100 درجة مئوية في نهاره الطويل الذي يبلغ حوالي أربعة أسابيع وتهبط الى 1500 في ليله الطويل ايضا .
إن الغازات النادرة الموجودة في الغلاف الجوي هي خاصة في الحفاظ على درجة حرارة الأرض ولو كان الغلاف الجوي خاليا منها واقتصر تكوينه فقط على النتروجين والأوكسجين اللذين يشكلان 99 بالمائة من حجمه لأصبحت درجة حرارة الارض حوالي 20 تحت الصفر وذلك لأن النتروجين والأوكسجين لا يمتصان إلا القليل من الإشعاعات تحت الحمراء .
يقول الدكتور عبد المحسن صالح في أحد أعداد مجلة الفيصل :
” الخلق كله من أوله إلى أخره،ومن بدايته حتى نهايته، يسير بموازين حساسة لا خلل فيها ولافوضى، صحيح أن كفتي الميزان قد تتأرجحان ذات اليمين وذات الشمال، ولكنهما لا بد الى التوازن عائدتان . والغلاف الهوائي قد جاء بدوره موزوناً ومتوازناً،ولكن يبدو أن الإنسان قد بدأ يتلاعب بالميزان دون أن يدري أو يدري، ولكن الذي ندريه حقاً أن نسبة الغازات فيه قد بدأت تختلف ، وقد يدفع الإنسان الثمن غالياً ما لم يعد إلى رشده ويحاول أن يصلح ما أفسده في موازين الخلق التي جاءت متعادلة من لدن حكيم خبير .
ويتابع :” يشير بعض العلماء الى أن الغلاف الهوائي قد ظل ثابتاً متوازنا بغازاته لأكثر من ألفي مليون عام ، ويقدر بعض العلماء أن كتلة الهواء التي تحيط بالأرض تصل الى حوالي 5 مليون بليون وهي دائماً في دورة مستمرة لا تتوقف ابدا،ً والعامل الأساسي في بقاء غازالأوكسجين وثاني أوكسيد الفحم هي عملية التمثيل الضوئي في المملكة النباتية .
إنّ النشاطات البشرية ومنها حرق الغابات، والوقود وإطلاق الغازات الملوّثة للجو لا تؤثرعلى تركيز الغازات الرئيسية في الغلاف الجوي مثل النتروجين والأوكسجين ولكن تؤثرعلى الغازات النادرة ذات التراكيز الزهيدة،وأي زيادة في تركيز هذه الغازات النادرة يؤدي الى امتصاص كمية أكبر من الحرارة وبالتالي إعادة جزء منها للأرض وبالتالي رفع درجة حرارة الأرض . ويعد ارتفاع غاز ثاني أوكسيد الكربون من أهم أسباب ارتفاع درجة حرارة الارض ولذا ظهر اهتمام عالمي بقياس تركيز هذا الغاز في الجو، ويقدر العلماء ان تركيز هذا الغاز كان حوالي 270 جزءا من مليون في عام 1850 ثم أصبح 315 عام 1957 والآن يزيد عن 345، ويزداد بمعدل 1،5 جزء من مليون في السنة وصحيح أن الزيادة طفيفة وقد لا تتعدى جزء من المليون في كل عام ولكن القليل مع القليل كثيرولو استمرت هذه الزيادة بمعدلها الحالي لعشرات اخرى من السنين فقد يؤدي ذلك الى كوارث ليست في الحسبان، وإن الزيادة بمعدل واحد في المليون في تركيز هذا الغاز قد تبدو شيئاً تافهاً ولكنك لو حسبتها بالنسبة للغلاف الهوائي ككل لتبين لك أن هذه النسبة تعني بالأرقام خطورة كبيرة في تركيب غازات الغلاف الهوائي .
وان أهم مصادر ارتفاع تركيز هذا الغاز أي ثاني اوكسيد الكربون :
1ـ استعمال واحتراق الوقود وخاصة الفحم والبترول والغاز الطبيعي، حيث تطلق وحدها سنوياً حوالي 18 ألف مليون طن من هذا الغاز مع ازدياد هذه النسبة عاماً بعد عام لزيادة استهلاك الوقود.
2 ـ اختفاء مساحات واسعة من الغابات والأشجار : بسبب زحف المدينة وهدم الأراضي الزراعية وقطع الأشجاء وزحف الصحاري على الأراضي الزراعية .
3 ـ تنفس أحياء الأرض من إنسان وحيوان ونبات حيث تُطلق سنوياً ما معدله 20 الف مليون طن من هذا الغاز .
2_ طبقات الجو :
من رحمة الله أن هذه البيئة التي جهزّها الله سبحانه وتعالى بكل مقومات الحياة لتصبح ملاذاً آمنا للإنسان وقد حفظها الله من مخاطر الإشعاعات الكونية الفضائية والشهب والنيازك التي تندفع من الفضاء الخارجي نحو الارض يقول تعالى : {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون} ” [الأنبياء 32 ].
يتألف الجو من طبقات مختلفة تتغير كلما ارتفعنا عن سطح الأرض ولكل طبقة وظيفة في إعالة الحياة وحمايتها،وفي عام 1962 قررت المنظمة الدولية للأرصاد الجوية تقسيم الغلاف الجوي المحيط بالارض والبالغ سمكه 35 ألف كم الى الطبقات التالية :
ـ تروبوسفير : أو الطبقة السفلى الملاصقة لسطح الارض : تمتد من سطح الارض وترتفع ما بين 7 كلم عند القطبين و17 كلم عند خط الاستواء وتحتوي على تسعة أعشار الغازات الجوية . وفيها تتكون الظواهر المناخية وتغير مستمر لدرجات الحرارة،ولذا تسمى الطبقة المناخية ، لأنها الطبقة المؤثرة في تغيّرات المناخ، وفيها تحدث كافة الظواهر الجوية، كالأمطار والسحاب والضباب والعواصف …وتحتوي على معظم بخار الماء الموجود في الغلاف الجوي، وتقل درجة حرارة الهواء وكثافته وضغطه كلما ارتفعنا لاعلى .
ـ الستراتوسفير : أو الطبقة الوسطى : وهي الطبقة بين 7 ـ 17 كلم الى 50 كلم
وتتميز هذه الطبقة بالاستقرار التام في جوها ،حيث ينعدم بخارالماء فيها وتخلو من الظواهر الجوية .
ويوجد فيها الأوزون الذي يحمي من الاشعاعات المؤذية وهي إحدى الطبقات الحافظة والدرع الواقي للبيئة ضد مخاطر الأشعة فوق البنفسجية الضارة التي لو وصلت الى سطح الأرض بكامل قوتها المنبعثة بها من الشمس لدمرت كل مظاهر الحياة .
والأوزون يوجد في هذه الطبقة بكميات هائلة ومن أهم وظائفه ضبط وتقنين وصول الاشعة فوق البنفسجية الى الأرض حيث لا تسمح إلا بمرور كميات محددة ومقدرة من قبل الخالق الذي يراها بعلمه أنها مفيدة وضرورية للحياة . والأوزون يوجد بنسب قليلة جدا في أجزاء الباردة من التربوسفير،ويتم تشكيل الأوزون عندما يتعرض الأوكسجين الى وابل من الأشعة فوق البنفسجية ويتم هذا غالبا في طبقة الستراتوسفير حيث تفتت الأشعة جزيئات الأوكسجين إلى ذرات الأوكسجين ثم تتحد بعض تلك الذرات مع جزيئات الأوكسجين مكّونة الأوزون. والأوزون له قدرة فائقة على امتصاص الاشعة فوق البنفسجية وبذلك يحمي جزيئات الأوكسجين والموجودة على ارتفاعات منخفضة من التفكك كما يقي الأرض من الأشعة فوق البنفسجية ، وعند امتصاص الأوزون لهذه الاشعة فإن حرارته تزداد وبذلك تتكون طبقات دافئة تعمل كغطاء للتربو سفير .

يقول الدكتور عبد الرزاق الكيلاني(الوقاية خير من العلاج):

“والأهم من كل ذلك هو الثقب الذي لاحظه العلماء في طبقة الأوزون التي تحيط بجو الأرض وتحميها من إشعاعات الشمس الضارة،وكان هذا الثقب تجاه القطب الجنوبي،وتعادل مساحته مساحة الولايات المتحدة تقريباً.وأخذت أشعة الشمس الضارة تتسرب من هذا الثقب إلى جو الأرض،بعد أن زال الحاجز الذي كان يمنعها من التسرب والولوج.لذلك كثرت الإصابة بالسرطانات الجلدية والورم القتاميني(الميلانوما)وبخاصة في السنوات الأخيرة وخاصة في العرق الأبيض.كما ازدادت الإصابة بالساد في العين.

ويتابع:”يحيط الهواء بكوكب الأرض من جميع الجهات،وتحيط بالهواء حلقة من غاز الأوزون.تبدأ من ارتفاع 10 كم عن سطح الأرض،ويزداد تكثفها حتى يبلغ أقصاه على ارتفاع 22 ؤكم عن سطح الأرض،ثم تبدأ بالتخلخل والتلاشي حتى ارتفاع 40 كم .

ما الأوزون إلا أكسجيناً مكثفاً،أوكسجيناً ثلاثي القوة،ينشأ عن اتحاد ذرات الأوكسجين بعضها ببعض في طبقات الجو العليا(طبقة الستراتوسفير)بفعل الإشعاعات الكونية،والأشعة فوق البنفسجية الصادرة عن الشمس(تمثل 5% من الأشعة الشمسية).والأوزون مادة مطهرة،قاتلة للجراثيم،يمكن انتاجه بآلاتٍ خاصة،تعمل على دمج ذرات الأوكسجين ببعضها فينشأ عنها غاز الأوزون،ويستعمل عند ذلك في تعقيم المياه وغرف العمليات وغيرها،ولكنه مادة سريعة الالتهاب،شديدة الاحتراق.

ويوجد كميات قليلة من الأوزون في الهواء الذي نستنشقه،تقدر بحوالي 4 ملغ في كل 100متر مربع من الهواء،وهي تزداد قُبيل الفجر إلى طلوع الشمس،وفي الربيع،كما تزداد نسبته في هواء الأرياف وفي الجبال التي تكسوها أشجار السرو والصنوبر.ويتولد القسم الاكبر من الأوزون فوق خط الاستواء لشدة كثافة الأشعة فوق البنفسجية هناك،ثم تحمله الرياح إلى القطبين.

حلقة الأوزون هذه تمتص كميات كبيرة من أشعة الشمس الضارة،وخاصة الأشعة فوق البنفسجية،ولا تسمح إلا لمقدار قليل منها بالوصول إلى الأرض،وهو مقدارٌ غير ضار بل مفيد للكائنات الحية والنباتات.أما إذا لم تحدث هذه التصفية ووصلت الأشعة فوق البنفسجية كلها إلى سطح الأرض،فإن حرارة الأرض ترتفع،وتتحرك الغازات في باطن الأرض فتحدث الزلازل،ويرتفع مستوى البحر فيغرق كثيراً من الشواطىء والجزر،ويكثر سرطان الجلد،وتضعف المناعة،ويحترق جلد البشر،وخاصة العرق الأبيض فلا يستطيعون الخروج من بيوتهم والتعرض لضوء الشمس.

لاحظ العلماء منذ سنة 1980م أن سُمك (ثخانة) طبقة الأوزون قد تخلخل فوق القطب الجنوبي،بمساحة تعادل مساحة الولايات المتحدة الأمريكية تقريباً،وأن الأشعة فوق البنفسجية الضارة بدأت تتسرب من هناك إلى جوِّ الأرض،وبدأت تأثيراتها الضارة تظهر في الناس والحيوان والنبات.ارتفعت درجة حرارة الأرض،وأُصيب نصف مليون أمريكي بسرطان الجلد،منهم حوالي 26 ألفاً بالسرطان المسمى(الميلانوما) وهو خطر جداً”.
ولعل أهمية هذه الطبقة كدرع واق يفسر لنا القلق والخوف الذي يساور البشرية بعد اكتشاف وجود ثقب في طبقة الأوزون في منطقة القطب الجنوبي عام 1985 ولعل أول من نبّه إلى وجود نقص في طبقة الأوزون الباحث الامريكي شيروود رولاند حيث ذكر حوالي عام 1974 أن هناك نقصا في الأوزون في طبقة الستراتوسفير ، وقد تشكلت عام 1987 اتفاقية دولية لحماية طبقة الأوزون نصّت على ضرورة إيجاد بديل غيرمُلوّث لغاز الكلور وفلورو كربون الذي تبين أنه المسئول الرئيسي عن تدهور طبقة الاوزون،إذ عندما يصل غاز الكلور وفلوروكربون إلى طبقات الجو العليا يتحلل بفعل الأشعة فوق البنفسجية وينطلق ما فيه من كلور قاتل للأوزون،إذ أن كل ذرة من الكلور قادرة على تحطيم 100ألف جزئ أوزون حيث أن ذرة الكلور تهاجم الأوزون وتفككه إلى أوكسجين وأوكسيد الكلوروتهاجم ذرة أوكسجين جزئ أول اوكسيد الكلور وتفككه وتتكون ذرات الكلورالحرة وهكذا دواليك .
ومما يدل على خطورة ما أصاب طبقة الأوزون من تدهوروالخوف من استمرار هذا التدهور عقد مؤتمر دولي في 18 اذار 1989 في مدينة لاهاي حضره 24 رئيس دولة وحكومة لمناقشة مشكلة طبقة الاوزون والإجراءات الكفيلة بحمايتها من خطر الملوثات الهوائية ومنها سرعة الحد من استخدام الكلور وفلوركربون وقد بلغ إنتاج أمريكا وحدها من كلورفلور كربون عام 1974 حوالي 380 مليون كغم . وفي عام 1989 تم اكتشاف ثقب صغير نسبيا في منطقة القطب الشمالي مما يشير الى أن تدمير الطبقة مستمر وما يحمله من مخاطر كبيرة ومنها وصول الأشعة فوق البنفسجية بكميات متزايدة الى الأرض وما تسببه من مخاطر ومنها سرطان الجلد والتاثير في جهاز المناعة في الجسم والتاثير في المقدرة الإنتاجية للحيوانات والنباتات والتاثير في المادة الوراثية لخلايا الحمض النووي إضافة الى التغيرات المناخية المتوقعة .
إن الأوزون الموجود في طبقات الجو العليا مفيد جدا،ولكن ارتفاع تركيز الأوزون بالقرب من سطح الارض له تأثيرات ضارة جدا على الطبيعة والبيئة والانسان ، ويشكل في تفاعلاته مع بعض المركبات والمخلفات الصناعية مركبات ضارة، ويساهم في تسميم الأشجار والنباتات وحتى بتراكيز منخفضة جدا أي التي لا تزيد عن جزء واحد من المليون ، وتعزى تأثيراته الضارة الى قوته المؤكسدة القوية والفعالة . وغاز الأوزون غاز سام لذلك يستخدم في عمليات التعقيم بدلا من الكلور،وان تنفس هذا الغاز يؤدي الى تدمير الرئتين،على العكس من غاز الاوكسجين الضروري للحياة .
كما يوجد في الجزء الأسفل من هذه الطبقة جزيئات من الكبريت التي تلعب دورا في عمليات الأمطار .
ـ الطبقة العليا : او الميسوسفير : وتبدا من 50 كلم وحتى ارتفاع 80 الى 85 كلم وتتميز بتناقص مستمر في درجات الحرارة حتى تصبح درجة الحرارة في أعلى هذه الطبقة منخفضة جداً حوالي 90 تحت الصفر , وهي تمثل أيضاً درعاً واقياً أخر للبيئة وخاصة من خطر الشهب والنيازك التي تضل طريقها وتندفع من الفضاء الخارجي نحو الارض . إذ تحترق هذه الشهب والنيازك في هذه الطبقة وتتحول الى رماد يتساقط بخفة فوق سطح الارض ويمكن أن نطلق على هذه الطبقة “محرقة الشهب والنيازك”، والشهب هو مايحترق في الغلاف الجوي،أما إذا وصلت الى الأرض وارتطمت بها فتسمى النيازك ، ولولا وجود هذه الطبقة لتعرضت الأرض للإرتطام بهذه الكواكب وأجزائها والذي قد يشكل تهديدا حقيقيا للبشر على ارضها ، ولعدم وجود غلاف غازي للقمر فإنه يتعرض للإصابة بهذه الكواكب وهذا من المشكلات الكبرى لحلم البشرية في استعمار القمر.
ـ الطبقة الرابعة وتسمى الإيونوسفير: تبدا من 80 ـ 85 كلم الى 700كلم ، وهي تحتوي على كميات كبيرة من الأوكسجين والنيتروجين المتأين والالكترونات الحرة بعد تأين جزيئات الأوكسجين والنتروجين المتعادلة بفعل الأشعة السينية الصادرة من الشمس .
وهذه الطبقة مقسمة بدورها إلى ثلاثة طبقات داخلية لكل منها خصائصها المتميزة ويتغير سمكها بتغير الليل والنهار وبتغير الفصول .
ـ الطبقة الخامسة : وتسمى الطبقة الحرارية أي الثيرموسفير .
ـ الطبقة السادسة وتسمى الاكسوسفير : وتمتد حتى تختلط مع فراغ الفضاء وهذه الطبقة يقل فيها الهواء إلى أن ينعدم .ويتراوح ارتفاع هذه الطبقة من حوالي 700 كم الى 35 ألف كم ، وهي قليلة الكثافة ولذا فإن الجزيئات في هذه الطبقة تكون لها حرية في الحركة تسمح بهروبها من الغلاف الجوي للأرض .
الطبقة السابعة وتسمى الماجنتو سفير : يمتد المجال المغناطيسي للأرض الذي يشكل غلافا حولها الى مسافة 50 ألف كم . ويقوم هذا الغلاف المغناطيسي إما بصد الجسيمات المشحونة القادمة من الفضاء الخارجي اواصطيادها واقتيادها ناحية قطبي الأرض المغناطيسي .
الإحتباس الحراري:
ابتكر هذا المصطلح ـ أي الإحتباس الحراري ـ العالم الكيميائي السويدي سفانتي ارينيوس عام 1896،وقد أطلق أرينيوس نظرية أن الوقود المحترق سيزيد من كميات ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي وأنه سيؤدي إلى زيادة درجة حرارة الأرض . وتعرف هذه الظاهرة علمياً بأنها الزيادة التدريجية في درجة حرارة أدنى طبقات الغلاف الجوي المحيط بالأرض كنتيجة لزيادة انبعاث العديد من الغازات التي تعرف بغازات الإحتباس الحراري وذلك منذ بداية الثورة الصناعية .
قبل الحديث عن ظاهرة الإحتباس الحراري لابد من ذكر بعض المعلومات الضرورية عن حرارة الارض ، فالأرض كوكب دافئ يبلغ متوسط درجة حرارة الارض حوالي 15 درجة مئوية،وهذا الرقم متوسطي ثابت تقريبا على مدى السنين والأحقاب الممتدة، ورغم أن الأرض تدور في فضاء شديد البرودة بل هو قارس البرودة حيث تصل درجة حرارة الفضاء الذي يحيط بالارض 270 تحت الصفر،ولكي تحتفظ الأرض بحرارتها بشكل ثابت ودائم فلابد من وجود مصدر دائم للطاقة الحرارية وهذا المصدر هو أشعة الشمس .
تنتقل أشعة الشمس الى الأرض على هيئة أشعة قصيرة الموجة،تمتص الأرض جزءاً منها فتسخن وتشع بنفس الوقت أشعة حرارية طويلة الموجات،وهناك توازن حراري للأرض بحيث تتساوى كمية الحرارة التي تمتصها الأرض من الأشعة الشمسية القصيرة الأمواج خلال فترة زمنية محددة مع كمية الحرارة التي تفقدها على هيئة اشعاعات مرتدة طويلة الأمواج خلال نفس الفترة الزمنية،ولا يمنع هذا التوازن الحراري وجود تغيرات يومية وفصلية ، فقد تكسب أجزاء من الأرض كمية من الحرارة خلال النهار أو خلال الصيف أكبر مما تفقده خلال الليل أو الشتاء . ولكن التوازن الحراري يتحقق للأرض ككل خلال فترة زمنية طويلة . ويلاحظ أنه عند خطي عرض 40 شمالاً أو جنوباً تتعادل كمية الحرارة المكتسبة مع كمية الحرارة المفقودة للفضاء الخارجي، أما في المناطق الموجودة إلى الشمال من خط عرض 40 شمالا أو الى الجنوب من خط عرض 40 جنوبا فإن كمية الحرارة التي تفقدها الارض أكبر من كمية الحرارة التي تكسبها ولذلك فهي مناطق باردة،وعلى العكس من ذلك المناطق الواقعة بين خطي العرض 40 شمالا وجنوبا ولذلك فهي مناطق حارة وتنتقل الحرارة من المناطق الحارة الى الباردة عن طريق الجو وعن طريق البحر )نقلاً عن مقال د. أمين حامد مشعل مجلة العربي الكويتية العدد 375 شباط 1990م).
جاء في ويكبيديا الموسوعة الحرة :
“الإحتباس الحراري ” :هو ظاهرة ارتفاع درجة الحرارة في بيئة ما نتيجة تغيير في سيلان الطاقة الحرارية من البيئة وإليها . وعادة ما يطلق هذا الإسم على ظاهرة ارتفاع درجات حرارة الأرض عن معدلها . وعن مسببات هذه الظاهرة على المستوى الأرضي،أي عن سبب ظاهرة ارتفاع حرارة كوكب الأرض ينقسم العلماء إلى من يقول أن هذه الظاهرة ظاهرة طبيعية وأن مناخ الأرض يشهد طبيعياً فترات ساخنة وفترات باردة،مستشهدين بذلك عن طريق فترة جليدية أو باردة نوعاً ما مابين القرن السابع عشر والثامن عشر في أوروبا . هذا التفسير يريح كثيراً الشركات الملوثة مما يجعلها دائماً ترجع الى مثل هذه الأعمال العلمية لتتهرب من مسؤوليتها أو من ذنبها في ارتفاع درجات الحرارة .وحيث أن أغلبية كبرى من العلماء والتي قد لا تنفي أن الظاهرة طبيعية أصلاً متفقة على أن إصدارات الغازات الملوثة كالآزوت وثاني أوكسيد الكربون يقويان هذه الظاهره،و في حين يرجع بعض العلماء ظاهرة الانحباس الحراري الى التلوث وحده فقط وحيث يقولون بأن هذه الظاهرة شبيهة الى حد بعيد بالدفيئات الزجاجية وأن هذه الغازات والتلوث يمنعان أو يقويان مفعول التدفئة لأشعة الشمس . ففي الدفيئة الزجاجية تدخل أشعة الشمس حاملة حرارتها الى داخل الدفيئة،ومن ثم لا تتسرب الحرارة خارجاً بنفس المعدل ، مما يؤدي الى ارتفاع درجة الحرارة داخل الدفيئة ، كذا تتسبب الغازات الضارة التي تنبعث من أدخنة المصانع ومحطات تكرير البترول ومن عوادم السيارات مثلاً في نفس الظاهرة مسببة ارتفاع درجة حرارة الأرض .
ورغم التقنيات المتقدمة والأبحاث المضنية نجد أن ظاهرة الإحتباس الحراري بالجو المحيط بالأرض مازالت لغزاً محيراً ولاسيما نتيجة ارتفاع درجة حرارة المناخ العالمي خلال القرن الماضي نصف درجة مئوية أخذ الجليد في القطبين وفوق قمم الجبال الاسترالية في الذوبان بشكل ملحوظ وانصهار كميات كبيرة من الثلوج في مناطق القطبين وتحرك هذه المياه لتسهم في رفع منسوب المياه في البحار والمحيطات واحتمالات تعرض بعض المدن الساحلية للغرق. وتشير سجلات المد والجزر في مناطق كثيرة من العالم أن منسوب مياه البحار قد ارتفع بمقدار 45 مليمتر في الفترة من 1890 الى 1940 وأخذ المنسوب في الارتفاع بمعدل 3 ميلمتر سنويا حتى عام 1970 ثم ازداد المعدل ليصل الى 14 مليمتر حاليا .
ولاحظ علماء المناخ أن مواسم الشتاء ازدادت خلال الثلاثة عقود الأخيرة دفئاً عما كانت عليه من قبل وقصرت فتراته .فالربيع يأتي مبكراً عن مواعيده . وهذا يرجحونه لظاهرة الإحتباس الحراري .
ويعلق العالم الانجليزي ريكيامار على هذه الظاهرة المحيرة بقوله : إن استراليا تقع في نصف الكرة الجنوبي وبهذا المعدل لذوبان الجليد قد تخسر تركة البيئة الجليدية خلال هذا القرن . وقد لوحظ أن الأشجار في المنطقة الشبه قطبية هناك قد ازداد ارتفاعها عما ذي قبل، فقد زاد ارتفاعها 40 مترا على غير عادتها منذ ربع قرن،وهذا مؤشر تحذيري مبكر لبقية العالم لأن زيادة ظاهرة الاحتباس الحراري قد تحدث تلفا بيئياً في مناطق أخرى وهذا الإتلاف البيئي فوق كوكبنا قد لا تحمد عقباه فقد يزول الجليد من فوقه تماما خلال هذا القرن وهذا الجليد له تأثيراته على الحرارة والمناخ والرياح .
ويربط العديد من العلماء بين المحيطات والتيارات الموجودة بها وبين درجة حرارة الأرض حيث أن هذه التيارات الباردة والساخنة عبارة عن نظام تكييف للأرض أي نظام تبريد وتسخين، وقد لوحظ مؤخراً أن هذه التيارات قد غيّرت مجراها مما جعل التوازن الحراري الذي كان موجوداً ينقلب، ويستدل بعض العلماء على ظهور أعاصيرفي أماكن لم تكن تظهر من قبل . كما يربط بعض العلماء التلوث الحاصل بتغير في عدد حيوانات البلانكتون في البحار نتيجة زيادة حموضة البحار نتيجة لإمتصاصها ثاني أوكسيد الكربون ،ويفسرون أن التلوث الذي يحدثه الإنسان هو شبيه بمفعول الفراشة أي أنها مجرد الشعلة التي تعطي الدفعة الأولى لهذه العملية والبلنكتون يقوم بالباقي .
إن الإحتباس الحراري يؤدي الى ارتفاع الحرارة في الأرض ولكن هذا الارتفاع يتفاوت من منطقة لأخرى،فقد وجد أن المناطق الباردة ستتأثر بمعظم الدفء فترتفع درجة حرارتها ارتفاعا ملحوظا ، بينما المناطق الحارة لا تحظى إلا بقدر بسيط من الدفء فلا تكاد تتأثر حرارتها ، وأن ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار درجة مئوية واحدة فقط يعني زيادة كبيرة في حرارة المناطق الباردة القريبة من القطبين مثل شمال القارة الامريكية الشمالية وأوروبا .
من أثار ارتفاع درجة حرارة الأرض ذوبان الجليد عند القطبين .. وهو ما يقدر العلماء أنه في حال استمراره فإن ذلك سيؤدي الى إغراق كثير من المدن الساحلية حول العالم ،كما سيؤدي ارتفاع درجة حرارة الأرض الى تغير المناخ العالمي وتصّحر مساحات كبيرة من الأرض .
وإن تغيير متوسط الحرارة في الأرض سيؤدي الى تغيير في خريطة سقوط الأمطار، وفي نظام الريح ، وبحيث تصبح بعض أجزاء من العالم أكثر أمطاراً عما كانت عليه،وبعضها أكثر جفافاً من ذي قبل ، كما أن نظام الرياح سوف يختلف ومن المحتمل أن يزداد هبوب العواصف ، ويصبح الصيف أشدّ حرارة عما كان عليه والشتاء أكثر برودة في بعض المناطق ، ولعل أخطر عواقب زيادة حرارة الارض وأخطرها كما ذكرنا هو ارتفاع منسوب سطح البحار ويقدر العلماء أنه في نهاية القرن الواحد والعشرين سيرتفع متوسط درجة حرارة الأرض حوالي خمس درجات مئوية وسوف يؤدي الى ارتفاع منسوب سطح البحر حوالي مترا واحدا فتغمر مياه البحر جميع المناطق الساحلية التي يقل ارتفاعها عن متر واحد وهذا يعني انه سيغمر مدينة الإسكندرية وأجزاء من دلتا النيل فيما يتعلق بالبحر الابيض المتوسط ، وأما بالنسبة للمحيط الاطلنطي فإنه سيغمر بعض سواحل المغرب ، وأما بالنسبة لمياه الخليج فانه يعني أنه سيغمر كثيرا من المدن الساحلية في الكويت والسعودية وقطر والبحرين والإمارات .
إن الأنشطة البشرية مثل تكرير النفط ومحطات الطاقة وعادم السيارات أسباب مهمة لارتفاع حرارة الكون وإن الغازات المسببة للإحتباس الحراري تتراكم في غلاف الأرض نتيجة أنشطة بشرية مما يتسبب في ارتفاع المتوسط العالمي لحرارة الهواءعلى سطح الأرض وحرارة المحيطات تحت السطح، ويتوقع أن يرتفع مستوى سطح البحر 48سم مما يمكن ان يهدد المباني والطرق وخطوط الكهرباء وغيرها من البنية الأساسية في المناطق ذات الحساسية المناخية وإن ارتفاع مستوى البحربالمعدلات الواردة في تقريروكالة حماية البيئة يمكن أن يغمر حي مانهاتن في نيويورك بالماء حتى شارع وول ستريت،وتعتبرالولايات المتحدة هي أكبر منتج لإنبعاثات ثاني اكسيد الكربون الناتجة عن الإنسان والتي يقول العلماء إنها السبب الرئيسي للغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري وتنبعث الغازات من مصانع الطاقة والسيارات وصناعات أخرى . ولقد شهد العالم في العقد الأخير من القرن الماضي أكبر موجة حرارية شهدتها الأرض منذ قرن حيث زادت درجة حرارتها 6 درجات مئوية وهذا معناه أن ثمة تغيراً كبيراً في مناخها لايحمد عقباه ،فلقد ظهرت الفيضانات والجفاف والتصحروالمجاعات وحرائق الغابات،وهذا ماجعل علماء وزعماء العالم ينزعجون ويعقدون المؤتمرات للحد من هذه الظاهرة الحرارية التي باتت تؤرق الضمير العالمي مما أصابنا بالهلع، وهذا معناه ان الأرض ستكتسحها الفيضانات والكوارث البيئية والأوبئة والأمراض المعدية، وفي هذا السيناريو البيئي نجد أن المتهم الاول هو غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي أصبح شبحا تلاحق لعنته مستقبل الارض،وهذا ماجناه الإنسان عندما أفرط في إحراق النفط والفحم والخشب والقش ومخلفات المحاصيل الزراعية، فزاد معدل الكربون بالجو، كما أن إجتثاث أشجار الغابات وانتشار التصحر قلل الخضرة النباتية التي تمتص غاز ثاني اوكسيد الكربون من الجو مما جعل تركيزه يزداد .
ولنبين أهمية المناخ وتأرجحه أنه قد أصبح ظاهرة بيئية محيرة فإنه عندما انخفضت درجة حرارة الأرض نصف درجة مئوية عن معدلها لمدة قرنين منذ عام 1570 ميلادي مرت اوروبا بعصر جليدي جعل الفلاحين يهجرون أراضيهم ويعانون من المجاعة لقلة المحاصيل،وطالت فوق الأرض فترات الصقيع ، والعكس لو زادت درجة الحرارة زيادة طفيفة عن متوسطها تجعل الدفء يطول وفترات الصقيع والبرد تقل مما يجعل النباتات تنمو والمحاصيل تتضاعف والحشرات المعمرة تسعي وتنتشر،وهذه المعادلة المناخية نجدها تعتمد على ارتفاع أو انخفاض متوسط الحرارة فوق كوكبنا .
ولاحظ العلماء أن ارتفاع درجة الحرارة الصغرى ليلاً سببها كثافة الغيوم بالسماء لأنها تحتفظ تحتها بالحرارة المنبعثة من سطح الأرض ولا تسربها للأجواء العليا أو الفضاء، لأن هذه السحب تعكس ضوء الشمس بكميات كبيرة ولا تجعله ينفذ منها للأرض كأنها حجب للشمس أو ستر لحرارتها، وفي الأيام المطيرة نجد أن التربة تزداد رطوبة ورغم كثرة الغيوم وكثافتها بالسماء إلا أن درجة الحرارة لا ترتفع لأن طاقة الشمس تستنفد في عملية التبخير والتجفيف للتربة .
ودرجة حرارة الأرض تعتمدعلى طبيعتها وخصائص سطحها سواء لوجود الجليد في القطبين أو فوق قمم الجبال أو الرطوبة بالتربة والمياه بالمحيطات التي لولاها لأرتفعت حرارة الأرض . لأن المياه تمتص معظم حرارة الشمس الواقعة على الأرض، وإلا أصبحت اليابسة فوقها جحيماً لا يطاق مما يهلك الحرث والنسل . كما أن الرياح والعواصف في مساراتها تؤثرعلى المناخ الإقليمي أو العالمي من خلال المطبات والمنخفضات الجوية لهذا نجد ان المناخ العالمي يعتمد على منظومة معقدة من الأليات والعوامل والمتغيرات في الجو المحيط أو فوق سطح الأرض . فالأرض كما يقول علماء المناخ بدون الجو المحيط بها سينخفض درجة حرارتها الى 15 دون الصفر بدلا من كونها حاليا متوسط حرارتها 15 فوق الصفر لأن الجو المحيط بها يلعب دورا رئيسيا في تنظيم معدلات الحرارة فوقها لأن جزءا من هذه الحرارة الوافدة من السمس يرتد للفضاء ومعظمها يحتفظ به في الأجواء السفلى من الغلاف المحيط ، ولأن هذه الطبقة الدنيا من الجو تحتوي على بخار ماء وغازات ثاني اوكسيد الكربون والميتان وغيرها وكلها تمتص الأشعة دون الحمراء فتسخن هذه الطبقة السفلى من الجو المحيط لتشع حرارتها مرة ثانية فوق سطح الأرض يطلق عليها. ومع ارتفاع الحرارة فوق سطح الارض أو بالجوالمحيط بها تجعل مياه البحار والمحيطات والتربة تتبخر . ولو كان الجو جافا أودافئا فيمكنه استيعاب كميات بخار ماء أكثر مما يزيد رطوبة الجو وكلما زادت نسبة بخار الماء بالجو المحيط زادت ظاهرة الاحتباس الحراري لأن بخار الماء يحتفظ بالحرارة ثم يشعها للأرض .
والغيوم قادرة على امتصاص الأشعة تحت الحمراء،لأن الغيوم العالية تكون طبقاتها الفوقية أكثر برودة من نظيرتها في الغيوم المنخفضة وبالتالي فإنها تعكس قدرا أقل من الأشعة تحت الحمراء للفضاء الخارجي.
تلوث البيئة:
ونقصد بتلوث الهواء وجود المواد الضارة به مما يلحق الضرر بصحة الإنسان في المقام الاول ومن ثم البيئة التي يعيش فيها.
ويمكننا تصنيف ملوثات الهواء الى قسمين :
1ـ مصادر طبيعية: أي لا يكون للإنسان دخل فيها مثل الأتربة .. وغيرها من العوامل الأخرى.
2 ـ مصادر صناعية: أي أنها من صنع الإنسان وهو المُتسبب الأول فيها فاختراعه لوسائل التكنولوجيا التي يظن أنها تزيد من سهولة ويسر حياته فهي على العكس تماما تزيدها تعقيدا وتلوثا : عوادم السيارات الناتجة عن الوقود ، توليد الكهرباء .. وغيرها مما يؤدي الى انبعاث غازات وجسيمات دقيقة تنتشر في الهواء من حولنا وتضر بيئتنا الطبيعية . ونجد أن المدن الصناعية الكبرى في جميع أنحاء العالم هي من أكثر المناطق تعرضا لظاهرة التلوث ، بالإضافة الى الدول النامية التي لا تتوفر لها الامكانيات للحد من تلوث البيئة .
ومن أكثر العناصرانتشارا والتي تلوث الهواء : الجسيمات الدقيقة وهي الأتربة الناعمة العالقة في الهواء والتي تاتي من المناطق الصحراوية . أو تلك الملوثات الناتجة من حرق الوقود ومخلفات الصناعة بالإضافة إلى وسائل النقل وهو غاز ثاني أوكسيد الكربون والمصدر الرئيسي له هي الصناعة وخاصة الناتج عن الكميات الهائلة من الوقود التي تحرقها المنشئات الصناعية ومحطات الوقود ومحركات الإحتراق الداخلة في وسائل النقل والمواصلات والتي ينجم أيضا عنها ثاني أوكسيد اكبريت،وأيضا أكاسيد النيتروجين والتي تنتج من حرق الوقود والأوزون وياتي نتيجة تفاعل اكاسيد النيتروجين مع الهيدروكربون في وجود أشعة الشمس وهو أحد مكونات الضباب الدخاني اي السموغ وأول اوكسيد الكربون ويوجد بتركيز عالي وخاصة مع استعمال الغاز في المنازل وأيضا دخان السجائروهو من أهم اسباب التلوث داخل البيئة الصغيرة للانسان أي في المنازل والمكاتب ونذكر أيضا الرصاص والزرنيخ والفسفور والزئبق والحديد والزنك والكبريت ونذكر ايضا مركبات الكلورو فلوروكربون وهي غازات تنتج عن استخدام الثلاجات وبعض المبيدات وبعض مواد تصفيف الشعرأوالمزيلات لروائح العرق .
إن المصادر التي تعرضنا إلى التسمم بالرصاص كثيرة ومتنوعة،وهي تشمل المصانع، ووقود السيارات(البنزين)، والأصباغ، والأطعمة المحفوظة في العلب المعدنية،والتربة الملوثة.وإن اللعب في التربة الملوثة واستنشاق غبار المنازل من المصادر الهامة التي تؤدي لدخول الرصاص في أجسامنا وخاصة عند الأطفال.ولذلك كانت التوصيات والتي يعمل فيها في عدد من دول العالم للتقليل من التسمم بالرصاص نزع الرصاص من البنزين.

ومن الشوائب والغازات نذكر غاز الميتان والذي ينتشر من أكوام القمامة وبقايا الحيوانات والنباتات.

ونذكر أيضاً غاز أوكسيد النيتروجين والذي تقذفه مداخن المصانع وعوادم السيارات،وطائرات الكونكورد.

وأهم من هذا كله غاز الكلوريد فلور الكاربون والذي يدخل في صناعة الثلاجات والبرادات والمكيفات والبخاخات،وعند انتشاره في الهواء والتقائه بالأشعة فوق البنفسجية يتحلل وتنطلق منه جزيئات غاز الكلور النشيطة والتي تخرب جزيئات الأوزون.

وقد عقد في كوبنهاجن عام 1992م مؤتمراً لحماية الأوزون وتقرر فيه اسبدال هذا الغاز في صناعة الثلاجات والبرادات والبخاخات بغاز أسلم منه،وعلى أن يتوقف استعمال هذا الغاز بشكل نهائي في تمام سنة 2000م.
وتتسبب ملوثات الهواء في وفاة حوالي 50 الف شخص سنويا أي بنسبة 2 بالمائة من مجمل الوفيات ويعتبر الدخان المنبعث من التبغ او السيجائر مسؤولا عن مقتل حوالي 3 مليون شخصا سنويا ومن المتوقع ان تصل النسبة الى 10 مليون شخص في الأربعة عقود القادمة .
إن ماينجم عن دخان المصانع وحرق النفايات والمخلفات الزراعية واستخدام الأفران في الصناعات المعدنية والطائرات النفاثة تنتج جميعها سحاباً يؤثر على المناخ وعلى الحياة البرية ، فالوقود المستخدم في الطائرات النفاثة الحديثة يحتوي على الهيدروجين الذي يتحد مع الاوكسجين في الهواء الجوي مما يؤدي لتشكل بخار الماء والذي يبقى في الجو لفترة طويلة . والمصانع تنتج غازات سامة ودخان كثيف وهذا الدخان لا ينتشر بسرعة بل يتراكم يوماً بعد يوم وحيث تكثر المصانع يصبح الهواء رمادي اللون، مشبع بالدخان والغازات،وهذا يؤثر على صحة الإنسان والحيوان والنبات،ويؤدي اختلاط الضباب مع الدخان إلى صعوبة التنفس لدى كثيرمن الناس وخاصة المسنين .
ولعل السيارات من أهم اسباب التلوث البيئي،فعوادم السيارات لا تحتوي فقط على غاز أول اوكسيد الفحم وهو غاز سام ولكنها تحتوي ايضاً على مركبات الرصاص التي تضاف إلى وقود السيارات لتحسين أداء المحركات،ومركبات الرصاص هذه تترسب على سطح الارض بعد انطلاقها من العوادم ،والرصاص سم خطير ويحدث العديد من الأمراض .
إن تلوث الهواء يؤدي بالتالي لتلوث الارض، فالهواء وما يحتويه من الجسيمات الضارة والغازات السامة التي تذوب بدورها في الماء، وعندما تمطر السماء أو تتساقط الثلوج ، فإن هذه الجسيمات والغازات تهبط الى الأرض مع المياه وتمتصها التربة ، وكذلك فإنها تتساقط الى البحيرات وخزانات المياه والبحار والمحيطات، وكثير من ربات المنازل لاحظن كيف يتسخ الغسيل عندما يترك على حبال الغسيل وتتساقط الامطار،مع أن ماء المطر هو بحد ذاته نقياً ، ولكن تلوث الجو هو المسؤول عن ذلك .
وإن التلوث الهوائي هو أشدّ ضرراً في المناطق الباردة منها في الحارة ، وذلك لأنه في المناطق الحارة يكون المجاور منه لسطح الأرض أكثر حرارة من الموجود في الطبقات العليا ، ولذا يرتفع الهواء الساخن ومعه الدخان الملوث الى طبقات الجو العليا فيقل ضرره على الناس،والعكس يحدث في المناطق الباردة ، فالهواء البارد لا يرتفع فيخيم الدخان الملوث على المدن ويزداد الضرر الناتج عنه .
وتلوث الهواء تنقله الرياح من مكان لأخر،فكثير من الغازات الضارة في ألمانيا وانجلترا تحملها الرياح الغربية الى شمال غرب روسيا وإلى الدول الإسكندينافية
كما أن النشاط الإشعاعي وخاصة السترونسيوم والذي ينجم عن التفجيرات الذرية يسبب تلوث البيئة وهذا العنصر الشعاعي يتساقط في المراعي التي تتغذى عليها الأبقارمما يؤدي لتلوث الألبان والحليب .
وهناك شركات غربية تعمل في مجال تخزين النفايات السامة ، وهي تستغل فقر بعض دول العالم الثالث وتعقد معها صفقات مشبوهة من أجل تخزين هذه النفايات في هذه الدول مقابل ترضية مادية متواضعة ، والمخاطر هنا لا تقتصر فقط على الدول الفقيرة بل تشمل العالم كله.
وهذه النفايات السامة تتميز بخاصتين :
1ـ أنها تتحلل ببطء شديد جداً فتتراكم في البيئة يوما بعد يوم.
2 ـ أنها مواد عالية السمية وتسبب الأمراض أوالموت اذا تسربت للإنسان والحيوان . وهذه النفايات معظمها غير مشع والقليل منها يصدر إشعاعا .
والنفايات غيرالمشعة تنجم عن أعمال التنقيب في المناجم، ومعالجة المجاري ، ومن مخلفات البناء،ومن المصانع التي تنتج مبيدات الأعشاب والحشرات ، والأدوية والأنسجة ومواد الصباغ والدهان وغيرها .
وعلى هذا يمكن أن نصنف التلوث البيئي الى الأقسام التالية :
1 ـ التلوث الغذائي : وخاصة بإستعمال المخصبات الزراعية والمبيدات ..
2 ـ التلوث المائي : ينزل الماء إلى الأرض في صورة نقية خالية من الجراثيم والعناصر الممرضة والملوثات الاخرى ، ولكن بسبب التلوث البيئي وخاصة الهوائي فإنه يصاب بالتلوث وقد يصبح غير صالح للشرب والاستهلاك اليومي وخاصة تلوث الماء بالسموم التي تطلقها المصانع من أبخرة وغازات ومايسمى ايضاً المطر الحمضي ، وهناك خطورة تلوث الماء بمخلفات الصرف الصحي التي تحمل الكثير من العوامل الممرضة الجرثومية والفيروسية والفطرية
3 ـ التلوث الإشعاعي :والذي يعتبر حاليا من أخطر الملوثات البيئية على المدى القريب أوالمدى المديد
4 ـ التلوث الهوائي : وقد تكلمنا عنه.
وتدور عجلة الزمان،ويستمر مسلسل الفساد والإفساد على مرِّ العصور وكرِّالدهور، يقوده الإنسان الذي أكرمه الله وسخّر له الكون بما فيه ومن فيه ،وجعله خليفته على الأرض، من أجل أن يتابع مسيرة الإصلاح والتعميروالبناء ولكنه منذ أن بدأت الخليقة في سنواتها الأولى أبى إلا الفساد فكان أول جريمة له على هذه الأرض أن قتل الأخ أخاه حسداً وطمعاً وظلماً وفساداً، واستمرالفساد بما جنته أيدي الإنسان فكان مما شهدته الأرض وماتشهده من كوارث ومصائب على مستوى البشر والحجر،اللهم إلا في بعض الفترات القصيرة الأمد من عمر التاريخ حيث طغى الإصلاح على الفساد، وعاد الإنسان إلى العقل والحكمة بدلاً من الرعونة والجنون، وكان ذلك عندما حكم الإنسان وقاد مسيرة الحياة وحقق رسالة الله على أرضه وملكه، وبمجرد أن ابتعد هذا الإنسان عن ربه ودينه وأنضى عنه لباس الدين والحكمة تحوّل من ملاك طاهر إلى شيطان غادر،فـألحق بنفسه وعشيره وما حوله الضرر والمرض وسوء العاقبة.
هذه خلاصة موجزة لنظرة الإسلام وهو دين الكمال والشمول الذي يتناول جميع شؤون الحياة،والذي كانت شرائعه لمصلحة الإنسان وخدمة الإنسان أثناء فترة إقامته على هذه الأرض خليفة لخالق الأكوان،ولكنه إذا ابتعد عن شريعة الله، ألحق الضرر بنفسه وبحياته التي يسرّها الله له وسخّر كل شيء من أجله،فإن لم يثب إلى رشده، ويستعين بربه، كانت نهايته على يديه، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

 

لا تعليق

Schreibe einen Kommentar

Deine E-Mail-Adresse wird nicht veröffentlicht. Erforderliche Felder sind mit * markiert